منبر حر لكل اليمنيين

حول مقال عبدالرحمن الراشد.. هل يمكن تقسيم اليمن بقرار سياسي أو دولي؟

همدان العليي

همدان العليي::

بداية، أتفهم مطالب أهلنا في المحافظات الجنوبية الداعيين إلى تشكيل كيانهم المستقل، وأدرك تماما دوافع وحيثيات هذه المطالب حتى وإن كنت أؤمن بإيجابيات وأهمية الوحدة لليمن (شمالا وجنوبا وشرقا) والمنطقة ككل، والنتائج السلبية المترتبة عن أي تقسيم.

لكن من المهم التأكيد على أن تحقيق الانفصال ليس بالمسألة السهلة، ولا يمكن إنجازها عبر قرارات سياسية أو توازنات وتفاهمات دولية، فضلا عن أن المكونات اليمنية في المرحلة الحالية لا تملك الأهلية القانونية لشرعنة خطوة بهذا الحجم خارج الدستور والإرادة الشعبية الجامعة.
تابعت كغيري من اليمنيين مقال الأستاذ القدير عبدالرحمن الراشد @aalrashed في صحيفة “الشرق الأوسط” والذي كان بعنوان “كيف للجنوب اليمني أن ينفصل؟”. وهو مقال يشير إلى فهم واسع وإدراك كبير بالواقع اليمني وهذا ليس غريبا على أستاذ كبير بحجم الراشد الذي نكن له كل التقدير والاحترام في اليمن. وبناء على نقاش سريع حدث بيننا في موقع (X) حول المقال المشار إليه أعلاه، رأيت أن أوضح بعض الأمور عبر مقال منفصل يجيب على سؤال محوري هام: هل يملك المجلس الرئاسي والبرلمان اليمني أو أي مكون يمني شمالي أو جنوبي اليوم السلطة القانونية لتحقيق الانفصال؟!

الوحدة اليمنية لم تكن خطوة اضطرارية ناتجة عن سقوط الاتحاد السوفياتي، أو بسبب خلافات الرفاق في عدن. يمكن القول أن هذه المعطيات ساهمت في تسريع تحقيق الوحدة، لكن الوحدة اليمنية كانت ثمرة لسلسلة من النضالات الطويلة في الشمال والجنوب.
بعد ثورة 26 سبتمبر 1962 في الشمال، كانت الوحدة اليمنية حاضرة بقوة، فهي الهدف الخامس من الأهداف الستة لثورة 26 سبتمبر التي أنهت حكم الإمامة وأسست النظام الجمهوري. وفي جنوب اليمن، كان الهدف الثالث لثورة 14 أكتوبر 1963 ضد الاستعمار البريطاني هو توحيد المناطق الجنوبية في سبيل توحيد اليمن. بناء على ذلك وضع هدف “تحقيق الوحدة اليمنية” على رأس برامج النضال الجنوبي، وظهر ذلك صراحة في شعارات الدولة وخططها الخمسية حتى أن النشيد الوطني لليمن الجنوبي قبل الوحدة هو النشيد الحالي للدولة اليمنية.
كان الجنوبيين أكثر حماسا لتحقيق الوحدة منذ وقت مبكر، حتى أنهم كانوا يريدون فرضها بالقوة، وشعارهم المرفوع في المؤسسات والمدارس الجنوبية كالتالي: “لنناضل من أجل الدفاع عن الثورة اليمنية وتنفيذ الخطة الخمسية وتحقيق الوحدة اليمنية” واستمر هذا الشعار مرفوعا حتى عام 1990.
كانت الوحدة اليمنية رغبة سياسية وشعبية لعقود طويلة، وهذه الرغبة كانت جلية في واحدية نضالات اليمنيين. فالجنوبيين ساعدوا الشماليين في ثورتهم ضد حكم الإمامة الكهنوتي، والشماليون كانوا داعما أساسيا لثورة جنوب اليمن ضد الاستعمار البريطاني بشهادة قادة الجنوب في تلك المرحلة على رأسهم المناضل الكبير علي عنتر رحمه الله.
تحقق الحلم اليمني في 22 مايو 1990 على يد النظام اليمني الجنوبي ممثلا بالرئيس علي سالم البيض، والنظام اليمني الشمالي ممثلا بالرئيس علي عبدالله صالح رحمه الله. وبهذا يمكن القول بأن وحدة سيادية حدثت بين دولتين تمت على يد قيادات تمتلك السلطة الدستورية في دولها، لكن هذه الوحدة لم تقر شعبيا، وهذا يسمى في الفقه الدستوري “مرحلة التأسيس النخبوي”.. وهي مرحلة صحيحة قانونيا مثل أي اتفاق دولي، لكنها بلا توقيع شعبي إن جاز التعبير.
في 15 و16 مايو 1991، طُرح الدستور اليمني الذي عُرف حينها بـ “دستور الوحدة” للتصويت الشعبي في الشمال والجنوب والشرق والغرب، وتم التصويت لصالح الدستور بنسبة 98.5%. كان الهدف من التصويت للدستور هو إقرار الوحدة اليمنية شعبيا إلى جانب الخطوة النخبوية التي تمت في 1990. بدأ الدستور الذي صوت عليه الشعب بالمادة التالية: “الجمهورية اليمنية دولة عربية إسلامية مستقلة ذات سيادة، وهي وحدة لا تتجزأ ولا يجوز التنازل عن أي جزءٍ منها”. وهذه ليست عبارة سياسية، وإنما قاعدة دستورية عليا تعرف طبيعة الدولة اليمنية وحدود السيادة، وبالتالي فان أي قرار أو إجراء يناقض هذه المادة يعتبر غير دستوري. علما بأن اتفاقية الوحدة التي ثبتها الدستور كانت على أساس دولة اندماجية بشكل كامل لا تراجع عنها تنصهر فيها الدولتين.
وبالعودة إلى السؤال السابق.. هل يحق لمجلس القيادة الرئاسي أو البرلمان اليمني شرعنة تقسيم اليمن أو التوقيع عليه أو التنازل عن أي شبر من ارض اليمن؟!
في نقاشنا السريع والتفاعلي مع مقالك، أشرت أنت في ردك أن الأمم المتحدة نقلت الشرعية من الرئيس السابق عبدربه منصور هادي إلى المجلس الرئاسي، وبناء على ذلك يستطيع المجلس الرئاسي المصادقة أو شرعنة الانفصال. ومع كل احترامي وتقديري لك، هذا تصور غير دقيق لدور الأمم المتحدة ومهام المجلس الرئاسي والرئيس السابق هادي بل وحتى علي عبدالله صالح رحمه الله.
بعيدا عن رأيي الشخصي المتعاطف مع أهلنا في المحافظات الجنوبية، الأمم المتحدة تعترف بالحكومات بوصفها ممثلا قانونيا للدولة، لكنها لا تفوضها بتفكيك الدولة أو تغيير شكلها ونظامها خارج الأطر الدستورية الداخلية. حتى افترضنا ووافق 100٪ من الجنوبيين على التقسيم. هذا لا ينشئ دولة، ولا يلزم المجتمع الدولي بالاعتراف بها إلا إذا تم عبر إطار دستوري معترف به..!
قرار مجلس الأمن 2216 لا يمنح صلاحية تفكيك الدولة، بل أكد على وحدة اليمن وسيادته وسلامة أراضيه، ولم يمنح الرئيس السابق هادي ولا المجلس لاحقا أي تفويض بتغيير شكل الدولة نيابة عن الشعب. باختصار، القرار في جوهرة حماية للوحدة ولا يمكن أن يكون وسيلة لتفكيكها قانونيا.
بالنسبة للمجلس الرئاسي فهو ليس سلطة تأسيسية للدولة كي يكون قادرا على نقض اتفاقية الوحدة. فأنت خير من يعلم بوجود فرق بين السلطة المنشأة مثل الرئيس أو المجلس الرئاسي والحكومة والبرلمان (مؤسسات تعمل داخل الدستور)، وبين السلطة التأسيسية وهي الشعب الذي يقرر شكل دولته ونظامها الدستوري. وأنت خير من يعلم، أن أي تغيير في شكل الدولة سواء وحدة أو فيدرالية أو انفصال، لا يتم إلا بواسطة السلطة التأسيسية وليس التنفيذية..! وهذا ما تم في 1991 عند التصويت على دستور الوحدة.
ومن هنا، لا يمكن شرعنة تقسيم اليمن قانونيا من خلال قرار مجلس رئاسي ولا توافق نخبوي ولا فرض أمر واقع. يمكن أن تتدخل بعض الدول وتدعم القوى المطالبة بالتقسيم لتفرض الأمر الواقع وبالقوة، لكن ستبقى هذه الخطوة غير شرعية، وسيأتي مكون يمني جديد ليبدأ حرب جديدة لأنه لا يعترف بهذا الواقع غير الدستوري حتى لو وقع عليه كل أعضاء مجلس الرئاسة وحتى لو وافق كل البرلمان لن يكون شرعيا إلا بعد تصويت شعبي لإنشاء دستور جديد.
ولتأكيد كلامي، دعني استدعي نموذج جنوب السودان وأرض الصومال من خلال مقالك الأخير. أنت لم تذكر العنصر الحاسم الذي جعل العالم يعترف بانفصال جنوب السودان ورفضه الاعتراف بأرض الصومال.
حدثت حرب دامية طويلة امتدت لأكثر من نصف قرن بسبب الخلافات العرقية والدينية وقد صنفت بانها أطول حرب في قارة إفريقيا، وانتهت باتفاقية وقعت في 2005 نصت صراحة على حق تقرير المصير لجنوب السودان عبر استفتاء شعبي بعد فترة انتقالية وهذا كان الأساس القانوني الأول، وليس السلاح وفرض الأمر الواقع. بعدها تم انشاء الدستور السوداني الانتقالي الذي أقر حق جنوب السودان في تقرير المصير، ثم تمت عملية التصويت عليه، وبهذه النتيجة اعترفت الدولة الأم بهذا التقسيم ومن ثم اعترفت دول العالم بدولة جنوب السودان.
صوماليلاند إقليم فعلي على شكل دولة مستقرة لكنها بلا اعتراف دولي.. لماذا؟ لأن الصومال وهي الدولة الأم لم تقبل بذلك ولا يوجد مسار دستوري معترف به. كذلك الأمر بالنسبة لكردستان العراق، فالحكم الذاتي الدستوري والاستفتاء والتعاطف الدولي لا يكفي دون تعديل دستوري مقبول مركزيا ودوليا..!
رغم ثقتي بمقاصد الأستاذ عبدالرحمن الطيبة والنبيلة والصادقة وحرصه على مصلحة اليمن واليمنيين، إلا أنه وقع في خطأ غير مقصود وهو الحديث عن تفويض نخبة سياسية مؤقتة لتقرير مصير دولة كاملة نيابة عن الشعب، وهذا يحول تقرير المصير إلى صفقة نخبوية تفتح الباب أمام انفصالات لا نهائية يخشاها ويرفضها المجتمع الدولي لاسيما وكثير من الدول العظمى والغنية اقتصاديا تعاني أيضا من وجود جماعات انفصالية فيها وبالتالي فان تسهيل تقسيم الدول بمثابة باب يفتح أمام الجحيم.
البعض يشير إلى إعلان ما سمي بـ”فك الارتباط” وحرب صيف 1994 كنقطة تحول أنهت الوحدة اليمنية، وهذا فهم عاطفي يتم تداوله بشكل كبير بين الناس، لكن من الناحية القانونية والدستورية غير صحيح ولهذا لم تعترف دول العالم بهذا الإعلان الأحادي، واستمرت عضوية اليمن الواحد في الأمم المتحدة حتى اليوم.
لم يتم التعاطي مع إعلان علي سالم البيض رغم انه شريك في صناعة الوحدة، لأنه -هذا الإعلان- يخالف دستورا نافذا تم التصويت عليه شعبيا، وقد نص صراحة على وحدة الدولة وعدم قابليتها للتجزئة إلا بمشروع دستوري جديد يتم التصويت عليه. كما أن الحروب الأهلية لا تسقط الدولة ولا تنهي وحدتها القانونية بحسب العرف الدولي، وإلا لانتهت عشرات الدول التي شهدت حروبا داخلية بعضها ناتجة عن دعوات انفصالية مثل الولايات المتحدة عام 1865 وإسبانيا ولبنان والسودان (قبل 2011) وسوريا وليبيا وغيرها.
نعم.. المسألة ليست عاطفية وإن أيدنا جميعا مطلب الانفصال. لأن أي نخبة سياسية شمالية أو جنوبية (أيا كان موقعها التشريعي أو التنفيذي) تريد المضي في مسألة تقسيم اليمن، ستجد أمامها مصدات دستورية كثيرة يجب تجاوزها ولا يمكن ذلك إلا باستفتاء دستوري جديد، ومن بين هذه المصدات المواد التالية:
المادة (1) والتي تضمنت النص التالي: “وهي وحدة لا تتجزأ ولا يجوز التنازل عن أي جزءٍ منها”.
المادة (4): “الشعب مالك السلطة ومصدرها، ويمارسها بشكل مباشر عن طريق الاستفتاء والانتخابات العامة… إلخ” وهذا يعني أن ما تم اقراره عبر استفتاء دستوري لا يمكن للنخب أيا كان مستواها إلغائه، وهذه مهمة الشعب فقط عبر استفتاء آخر.
المادة (61): “الحفاظ على الوحدة الوطنية… واجب على كل مواطن”.. وهذه المادة رفعت الحفاظ على الوحدة من خيار سياسي إلى واجب دستوري.. أي أن الدعوة لتشطير الدولة خارج الأطر الدستورية قد تجعل أي طرف بسيط يحشد اليمنيين ضد هذا التوجه وهو يملك الحق الدستوري في ذلك.
المادة (110): “يعمل رئيس الجمهورية على تجسيد إرادة الشعب واحترام الدستور والقانون وحماية الوحدة الوطنية ومبادئ وأهداف الثورة اليمنية… إلخ”. وهذا يجعل رئيس الدولة ونواب المجلس الرئاسي أمام مسؤولية قانونية تمنعهم من تمرير أي اتفاقية لتقسيم اليمن إلا من خلال خطوات دستورية واستفتاء شعبي.
المادة (158): تقول المادة بأن أي تعديل للبابين الأول والثاني “(ومن ضمنهما مادة 1 ومادة 4” يتطلب موافقة ثلاثة أرباع مجلس النواب أولا، ثم عرض التعديل على الشعب للاستفتاء العام، ولا ينفذ إلا إذا وافقت “الأغلبية المطلقة لعدد من أدلوا بأصواتهم”. وهذا القيد الدستوري ملزم لأنه يؤكد أن وحدة الدولة (المعرّفة في الباب الأول) لا يمكن نقضها بقرار نخبوي أو هيئة انتقالية أو مجلس رئاسي أو حتى رئيس منتخب. بل فقط بمسار دستوري وضح يتم اقراره بتصويت شعبي.
مادة (160): نص اليمين الدستوري يقول “وأن أحافظ على وحدة الوطن واستقلاله وسلامة أراضيه”، وهذا يجعل أعضاء المجلس الرئاسي والبرلمان أمام التزام دستوري يقيد السلطة التنفيذية والتشريعية بشكل صارم ولا أعتقد بوجود مسؤول يمني يقبل أن يتحمل المسؤولية الأخلاقية والوطنية والتاريخية إذا تجاوز هذا القسم.
نهاية القول: أؤمن تماما أن التكلفة التي سيدفعها اليمنيون، ومعهم الأشقاء والأصدقاء من دول العالم، لمعالجة اختلالات الوحدة اليمنية، تبقى أقل بكثير من الكلفة التي ستدفع في حال حدوث التقسيم الذي سيؤسس لانفصالات أخرى داخل اليمن وخارجه.
إصلاح مسار الوحدة، يظل ممكنا وأقل تعقيدا مقارنة بصعوبة معالجة الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية والاجتماعية التي سينتجها قرار الانفصال.. مشاكل التقسيم لن تتوقف، وسيرى الجميع أن مشكلات الوحدة أقل بكثير من فوضى التقسيم.

تعليقات