ميناء المخا التاريخي: بين إعادة الإحياء الاستثماري وإعادة التموضع الجيوسياسي في البحر الأحمر
أ.د. عبدالوهاب العوج
أ.د. عبدالوهاب العوج::
ان اتفاقية تطوير ميناء المخا (ديسمبر ٢٠٢٥م) ليست مجرد عقد استثماري بقيمة تقدر بحوالي ١٣٠ مليون دولار، بل هي محاولة استراتيجية لإعادة رسم خريطة النفوذ الاقتصادي والسياسي على الساحل الغربي لليمن، حيث تأتي هذه الخطوة في لحظة فارقة، حيث يعاد تعريف أهمية الجغرافيا اليمنية تحت وطأة الحرب الإقليمية في البحر الأحمر، مما يحول المشروع من مبادرة تنموية إلى أداة في صراع أوسع على السيادة والنفوذ وأمن الممرات العالمية.
١. التحليل الجيوسياسي الموسع: المشروع في قلب العاصفة الإقليمية
أ. الموقع: ورقة الرهان الاستراتيجي
يقع ميناء المخا شمال مضيق باب المندب مباشرة، وهو ما يمنحه قيمة لا تُقدَّر بثمن في السياق الحالي:
رديف استراتيجي: يشكل بديلاً جغرافياً وسياسياً وعملياتياً لميناء الحديدة الذي تسيطر عليه جماعة الحوثي، والذي يُنظر إليه دولياً كمصدر تهديد لأمن الملاحة.
نقطة مراقبة وسيطرة: قربه من خطوط الملاحة الدولية (آسيا-أوروبا) يجعله موقعاً محتملاً لأي ترتيبات أمنية أو لوجستية دولية لمراقبة الممر وإسناد العمليات.
تغيير المعادلة الساحلية: يعزز وجود قطب اقتصادي-لوجستي رئيسي تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً، مما يخلق توازناً جديداً ضد هيمنة الحوثيين على الساحل الغربي.
ب. السياق الإقليمي المضطرب: من الممر إلى ساحة الحرب
· حرب البحر الأحمر: منذ أواخر ٢٠٢٣، تحول باب المندب والمناطق المجاورة إلى ساحة قتال مفتوحة بهجمات حوثية وردود التحالف الدولي. هذا رفع القيمة الإستراتيجية لأي ميناء آمن ومستقر خارج سيطرة الجماعة المسلحة.
· مصالح القوى الإقليمية والدولية: يُقرأ المشروع ضمن حسابات متناقضة أحياناً:
· السعودية: قد ترى فيه تعزيزاً لموقف حليفها (الحكومة اليمنية) ودعماً للاستقرار الاقتصادي في تعز، مما يخفف الضغوط الأمنية على حدودها الجنوبية.
· الإمارات: تسعى دوماً لتعزيز شبكة من الموانئ والنفوذ اللوجستي (مثل: بربرة في الصومال، وعمق في اليمن). قد تتعامل مع المخا كجزء من هذه الشبكة أو كمنافس محتمل يحتاج إلى تنسيق.
· مصر: قلقة أصلاً من أي تحولات في أمن البحر الأحمر الذي يمثل شريان حياتها. تطوير ميناء جديد قرب باب المندب قد يثير لديها مخاوف من تغير تركيبة اللاعبين الفاعلين، أو قد ترحب به كمعزز للأمن إذا كان تحت إدارة معترف بها.
· الولايات المتحدة وحلفاؤها: تبحث عن نقاط ارتكاز آمنة لدعم عملياتها البحرية وحماية الملاحة. ميناء ذو قدرة متطورة في هذا الموقع يقدم خياراً لوجستياً وسياسياً مهماً.
ج. الصراع الداخلي: معركة السيادة والاقتصاد
· استعادة أدوات الدولة: يمثل المشروع محاولة جريئة من الحكومة اليمنية لاستعادة دورها الفاعل في إدارة الموانئ والإيرادات، بعد سنوات من سيطرة المليشيات أو انهيار المرافق.
· ضربة اقتصادية غير مباشرة للحوثيين: خلق منفذ بحري كفء ومزدهر جنوب مناطق سيطرة الحوثيين قد يحول التجارة والتدفقات الاقتصادية، ويقلل من اعتماد مناطق تعز والجنوب على المنافذ الواقعة تحت تأثيرهم المباشر أو غير المباشر.
· التحدي الأمني الميداني: قرب الموقع من مناطق يمكن أن تكون ساحة صراع يجعل الاستثمار ضخم المخاطر. استمرار العمل سيتطلب ترتيبات أمنية معقدة وحماية دولية ضمنية، مما يعسكر المشروع اقتصادياً ويصهره في الصراع العسكري الجاري.
٢. الأبعاد المتداخلة للمشروع: ما وراء الجيوسياسة
أ. البعد الاقتصادي-الاجتماعي: حلم تعز المنعزل
· منفذ الحياة: تعز، أكبر المحافظات سكاناً، تعاني حصاراً اقتصادياً وعزلة لوجستية لسنوات. المشروع وعد باختصار الطريق وخفض الكلفة على الغذاء والدواء والوقود، مما قد ينعش اقتصاداً محلياً منهكاً.
· فرص العمل والدورة الاقتصادية: سيخلق آلاف الوظائف المباشرة وغير المباشرة في التشغيل والنقل والخدمات اللوجستية، وهو عامل استقرار اجتماعي مهم.
· التحدي البنيوي: نجاح الميناء اقتصادياً مرهون بتطوير شبكة طرق سريعة وآمنة تربطه بتعز وبالداخل اليمني، وهو استثمار موازٍ قد يفوق كلفة الميناء ذاته.
ب. البعد الأمني المحلي: من الاستقرار العسكري إلى الاستقرار الاقتصادي
· يسعى المشروع إلى تحويل المناطق الساحلية المحررة من ساحات حرب إلى مناطق جذب اقتصادي، مستخدماً منطق المصالح الدائمة لترسيخ الأمن بدلاً من الاعتماد الكلي على القوة المسلحة الهشة.
ج. التحديات العملية الكبرى
1. المخاطر الأمنية: إمكانية استهداف الميناء أو خطوط إمداده كجزء من الصراع الأوسع.
2. المنافسة الشرسة: كيف سيجذب المخا الخطوط الملاحية بعيداً عن موانئ جيبوتي وعمق وعدن والمكلا الراسخة أو المدعومة إقليمياً؟
3. حوكمة الاستثمار: ضمان الشفافية وعدم تحول المشروع إلى منفذ فساد جديد أو ساحة لتنافس النخب المحلية.
٣. السيناريوهات المستقبلية: نحو إعادة تموضع البحر الأحمر
مستقبل ميناء المخا سيتحدد بتفاعل عدة متغيرات:
· سيناريو النجاح (المتفائل): ينجح في أن يصبح منفذاً رئيسياً لتعز والمناطق المجاورة، ويجذب شراكات لوجستية دولية، ويصبح جزءاً من الترتيبات الأمنية الإقليمية، مما يعزز موقف الحكومة اليمنية ويعيد تموكز النشاط الاقتصادي.
· سيناريو التعثر (الواقعي): يعمل بطاقة محدودة بسبب التحديات الأمنية والمنافسة، ويبقى ميناءً إقليمياً يخدم حاجة محلية دون تحقيق التحول الجيوسياسي المنشود.
· سيناريو الصراع (المتشائم): يصبح ورقة مساومة أو هدفاً عسكرياً في التفاوض أو التصعيد بين الأطراف المتصارعة، مجمداً استثماراته ومحولاً إياه إلى موقع عسكري استراتيجي بامتياز.
الخلاصة: هذه
الاتفاقية لتطوير مينا المخا هي تجلٍّ عملي لعودة “الجيوبوليتكس” بأقسى صورها، إنها تأكيد على أن موانئ اليمن التاريخية، التي شكلت ثروته ونقاط ضعفه، تعود إلى واجهة الصراع العالمي على الممرات البحريةالدولية وبصفة عامة فهذا المشروع محاولة يمنية ذكية لاستغلال هذه اللحظة التاريخية والجيوستراتيجية، لتحقيق مكاسب اقتصادية وأمنية وسياسية. إلا أنه يغرق في بحر من المخاطر، حيث أن خط الفاصل بين كونه منفذاً للحياة في تعز، وكونه هدفاً في حرب إقليمية، خط رفيع جداً. النجاح لن يقاس بقدرة الميناء على استقبال السفن، بل بقدرة النظام السياسي الإقليمي على استيعاب هذا التموضع الجديد دون أن يتحول إلى شرارة تصعيد أخرى.
* أكاديمي ومحلل سياسي يمني – جامعة تعز