في كل مراحل التاريخ، ظلت العدالة والمطالبون بها رهائن للقمع والملاحقة، فكم من نبي طرد من أرضه، وكم من ثائر شرد أو نفي عن وطنه! لكن لم يجرؤ أحد على أن يطالب هؤلاء الصادقين بالكف عن دعوتهم لمجرد أنهم أصبحوا في الخارج، لم يقل أحد للمسيح وهو يطوف الأرض يدعو للحق: عد أولا إلى الناصرة، ثم تحدث، ولم يقل أحد للرسول محمد وهو يدعو من المدينة: عد أولا إلى مكة، ثم تحدث ولم يطلب من مانديلا في زنزانته أو من شارل ديجول وهو في منفاه أو من الثوار العرب في عواصم العالم أن يصمتوا حتى يعودوا إلى بلدانهم، وحده اليمن ابتدع هذه القاعدة الغريبة: إن كنت في الخارج فلا حق لك أن تتحدث باسم الوطن!.
هذه الحالة الشاذة ليست نتيجة وعي سياسي ناضج، بل انعكاس لتشوه عميق في وعي جمعي صيغ على مدى سنوات الحرب والخذلان والتشويه الإعلامي، فمن الطبيعي أن تتباين الرؤى، وأن يختلف الناس في وسائل المواجهة، لكن أن تتحول الجغرافيا إلى مقياس للوطنية، فهذه كارثة وعي قبل أن تكون أزمة موقف..
لو أخذ بهذا المنطق المشوه في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لما سمح للزبيري والنعمان والبيضاني ورفاقهم بالحديث باسم الشعب اليمني من القاهرة وبيروت، ولما وصلت معاناة اليمنيين إلى آذان العالم، ولما ولدت ثورة 26 سبتمبر أصلا، هؤلاء لم يختاروا المنفى ترفا، بل دفعوا ثمن مواقفهم، كما يدفعه اليوم كثير من الشرفاء في الشتات..
اليوم، إذا حاول أي صوت وطني في الخارج أن يمد يده لمن هم في الداخل، أو أن يخلق غطاء سياسيا يدعم المواجهة أو يؤسس لجبهة موحدة، تنهال عليه حملات التشكيك والتخوين: لماذا لا تعود؟، من يدعمك؟، من خولك؟، أنت تتحدث من فندق”! وكأن الوطنية مرتبطة بعنوان سكن لا بموقف ومشروع!.
لقد نجحت القوى التي تدير الحرب – محليا وخارجيا – في تمزيق الصف الوطني إلى درجات لم تعد تميز معها بين العدو والرفيق، ولا بين التباين والخيانة، فصار الناس يستهلكون وقتهم في جلد بعضهم بعضا، متناسين أن معركتهم الحقيقية مع من نهبوا الدولة، ومزقوا الوطن، وأغرقوا البلاد في دوامة الدم والفساد..
الحل: نحو مشروع وطني عابر للجغرافيا
إن الخروج من هذه الدوامة يبدأ أولا باستعادة الثقة بين اليمنيين، والإيمان بأن النضال لا تحده الخرائط ولا تمنعه الإقامات، فكما أن للداخل دوره المقدس في الصمود والمواجهة، فللخارج دور لا يقل أهمية في التأثير السياسي، وكسب الدعم الدولي، وتكوين لوبيات ضغط لصالح اليمن..
الحل لا يكون بإقصاء طرف، بل بخلق مشروع وطني جامع يتسع لكل اليمنيين، في الداخل والخارج، على اختلاف مشاربهم، شريطة وضوح البوصلة: استعادة الدولة، وإنهاء الانقلاب، وبناء دولة المواطنة..
يجب إعادة الاعتبار للنقاش العقلاني بعيدا عن التخوين، وتوجيه الجهود نحو العدو الحقيقي لا نحو بعضنا البعض، فالشتات لا يجب أن يكون لعنة، بل يمكن أن يتحول إلى رافعة سياسية وإعلامية إذا ما تم استثماره في الاتجاه الصحيح..
وفي زمن الحرب، لا رفاهية لنا لفرز الوطنيين بناء على أماكن تواجدهم، بل على مواقفهم ومصداقيتهم واستعدادهم للتضحية من أجل وطن جريح!!.