في تاريخ الأمم، تمر لحظات مفصلية يكون فيها سقوط رجل، كأنه سقوط وطن.
وفي اليمن، لم يكن رحيل الزعيم علي عبدالله صالح مجرد غياب سياسي، بل كان انطفاء مرحلة بأكملها، واختفاء آخر الرجال الذين صاغوا حاضر البلاد بشجاعة ومكر، قوة وبصيرة، ثم اختار أن يرحل واقفًا لا منكسًا الرأس.
لقد جاء الفيلم الوثائقي الذي بثته قناة “العربية” بعنوان “اللحظات الأخيرة” ليعيد فتح الجرح من جديد… لكنه في الوقت ذاته، أعاد توحيد الشعور اليمني، حتى عند خصومه، حول هذه الحقيقة المؤلمة:
خسرنا زعيمًا استثنائيًا، قلّ أن يتكرر.
في زمن الهزائم والانحناءات، وقف علي عبدالله صالح في وجه الغدر، لم يهرب، لم يساوم، لم يغادر صنعاء سرًّا. كان يعلم أنهم يترصّدونه، لكنه لبّى نداء الوطن على طريقته، بشجاعة رئيس سابق… وقائد دائم.
ولأن القادة الحقيقيين لا يموتون في الزوايا المعتمة، فقد قرّر أن يخرج من صنعاء إلى حصن عفاش، قريته التي منها بدأ كل شيء… وهناك، سقط شهيدًا في كمين غادر في الجحشي.
لم يكن ذلك اختفاءً بل كان ظهورًا أخيرًا بشرفٍ يليق بتاريخه.
في وقت اختلطت فيه الروايات وتنازعت الألسن في تفاصيل النهاية، خرج مدين علي عبدالله صالح، المعتقل السابق، والابن الشاهد، ليُعلن الحقيقة كما هي:
“والدي لم يُقتل في منزله بحي الثنية، بل استشهد وهو في طريقه إلى حصن عفاش.”
كان يستطيع، كما فعل كثيرون، أن يؤكّد الرواية السائدة التي تبنّتها الجماهير لسنوات، ويقول إنه استُشهد في منزله بصنعاء، في مشهد بطولي مغلق.
لكن ابن الزعيم لم يفعل.
قال الحقيقة كما عايشها، بصدق من تربّى في مدرسة رجل لا يعرف الخداع.
تلك شهادة لا تقال فقط عن لحظة، بل تعني أن علي عبدالله صالح لم يربِّ جُبَناء ولا كَذَبة، بل أورث اليمن رجالاً يُعتمد عليهم، حتى حين تهتز الروايات وتضيع الحقيقة.
رحل الزعيم، وغرقت البلاد في فوضى لا قرار لها…
لا قبائل وقفت، ولا مواقف حُسمت، ولا رجال ظهروا كما ينبغي.
كان صالح صمّام أمان بقدر ما كان خصمًا لبعض، لكنه في النهاية ظلّ الضمانة الوحيدة لوحدة اليمن وسيادته، بصرف النظر عن التحالفات والصراعات.
واليوم، بعد كل هذه السنوات، يتأكد للجميع أن اغتيال صالح لم يكن اغتيالًا لشخص… بل اغتيالًا لمعادلة وطنية كاملة.