تمثل العملية الأوكرانية الأخيرة التي استهدفت العمق الاستراتيجي الروسي لحظة بالغة الدلالة في مسار الصراع الروسي-الأوكراني، إذ إنها لم تكن مجرد حدث عسكري معزول، بل علامة عميقة على اختبارات متشابكة، تاريخية وجيوسياسية واستراتيجية. لفهم أبعاد هذا الحدث، لا بد من العودة إلى الذاكرة التاريخية المقارنة؛ إذ تذكّرنا العملية بحملتي نابليون في القرن التاسع عشر وهتلر في القرن العشرين، وكلاهما واجه في النهاية ذلك الكيان الروسي المترامي الأطراف الذي لطالما أظهر قدرته على امتصاص الصدمات وتحويلها إلى قوة مضادة، قلبت الموازين الإقليمية لصالحه. لكن السؤال الذي يجب طرحه الآن ليس فقط: ماذا فعلت روسيا سابقا ؟ بل: هل روسيا اليوم هي ذاتها روسيا الأمس؟ هل لا تزال تحكمها ردود أفعال تقليدية أم أنها تعيد رسم استراتيجيتها بما يتلاءم مع تحولات العصر؟
من المؤكد أن هذه العملية، التي ضربت عصبا حساسا في الهيكل الروسي، أحدثت حالة تأهب قصوى متبادلة بين موسكو وعواصم أوروبا. هنا لا يمكن إغفال التوقيت؛ العملية جاءت على أعتاب مفاوضات كانت مرتقبة بين روسيا وأوكرانيا، الأمر الذي يثير بوضوح فرضية وجود أطراف فاعلة أرادت نسف المسار التفاوضي وإبقاء الصراع مشتعلاً. السؤال المحوري إذا: من المستفيد من إطالة أمد الحرب؟ وما هي القوى التي تتحرك في الظل لإعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية؟
عند تفكيك العملية من منظور استراتيجي، نجد أنها لم تكن لتتم بدون تخطيط دقيق يمتد لأشهر وربما لأكثر من عام، وبتوظيف موارد ضخمة وقدرات استخباراتية وعسكرية متطورة. هذا المستوى من التعقيد والتنظيم يكشف أن المسألة أكبر من مجرد قرار أوكراني داخلي؛ هناك على الأرجح تداخل مصالح وتنسيق بين قوى دولية وإقليمية، سواء بشكل مباشر أو عبر وسطاء.
إن استهداف العمق الروسي ليس مجرد عمل عسكري؛ إنه رسالة سياسية ذات طابع رمزي عميق، يعيد إلى الواجهة سؤالا قديما: هل من الممكن كسر الهيمنة الروسية؟ وإذا كانت التجارب التاريخية تؤكد أن روسيا اعتادت الرد الحاسم عند تهديد أمنها القومي، فإن المعطيات الحديثة تلمّح إلى تغير محتمل في سلوكها: مزيد من الحذر، ربما، أو تأجيل الرد لصالح إعادة التقييم الاستراتيجي، بدل الانجرار فورًا إلى المواجهة. هنا، نلمس ملامح تحوّل في طبيعة (عقل الدولة)الروسي، الذي بدأ يدرك تعقيد المشهد الدولي الجديد، حيث لم تعد القوة العسكرية وحدها كافية لضمان الهيمنة.
أما على مستوى التفاوض، فإن تعطيل مسار الحوار الروسي-الأوكراني يعني أن ثمة أطرافًا ترى في استمرار الحرب فرصة ذهبية لتعزيز مواقعها أو لإضعاف خصومها. قد يكون هذا الطرف قوى غربية ترى في استنزاف روسيا خيارًا استراتيجيًا، أو أطرافًا إقليمية لها حسابات خاصة مرتبطة بتوازن القوى في شرق أوروبا. المهم هنا أن المشهد لم يعد مقتصرًا على موسكو وكييف؛ بل أصبح معركة مفتوحة تتقاطع فيها خطوط المصالح الإقليمية والدولية.
أما التداعيات، فهي متعددة الأبعاد: عسكريا، من المتوقع أن تعمل روسيا على إعادة تعزيز دفاعاتها ورفع جاهزيتها لردع أي محاولات مستقبلية مماثلة؛ دبلوماسيًا، قد نشهد تصعيدًا في الخطاب السياسي والمطالبة بتحقيقات أو حتى فرض عقوبات؛ وفي المقابل، قد تدفع هذه التطورات الدول الأوروبية إلى تشديد تضامنها وتوسيع نطاق دعمها لأوكرانيا، سواء ماديًا أو عسكريًا.
في المحصلة، لا شك أن العملية الأوكرانية الأخيرة أطلقت شرارة مرحلة جديدة في مسار الصراع. السؤال الذي سيظل معلقًا في الأشهر المقبلة هو: أي نهج ستتبناه موسكو؟ هل نشهد عودة (الدب الروسي)بأسلوبه الكلاسيكي المعتاد، أم سنكون أمام روسيا جديدة، أكثر براغماتية ومرونة، تستوعب تحولات العصر وتعيد بناء استراتيجيتها بما يناسب معادلات القوة الجديدة؟ إن الجواب على هذا السؤال لا يهم روسيا وحدها، بل سيحدد ملامح النظام الدولي برمته في السنوات القادمة.