منبر حر لكل اليمنيين

يا أحمد أنا بخير.. حين تُضبط القوة بوعي المسؤولية

أحمد محمد عبدالملك الهياجم

أحمد محمد عبدالملك الهياجم::

هذا المقال ليس دفاعًا عن رئيس حزبٍ أنتمي إليه، ولا عن رئيس دولتي السابق، وإن كان الدفاع عن الانتماء حقًا مشروعًا لكل فرد. لكنه في جوهره قراءة في سلوك السلطة حين تمتلك القوة؛ حيث لا يُقاس القادة بما يملكون من أدوات القهر، بل بقدرتهم على ضبطها، وبما يختارونه في اللحظات التي تكون فيها كل الخيارات ممكنة.

فليست كل اللحظات العظيمة تلك التي يُشهر فيها السلاح، ولا كل البطولات تُقاس بكمّ الدم المسفوك. فالتاريخ الإنساني يقدّم نماذج لشعوب انتزعت حقوقها بالسلم لا بالحرب، ولعل تجربة الهند من أبرزها، إذ واجهت واحدة من أعقد الإمبراطوريات في زمانها، وانتزعت استقلالها دون أن تطلق رصاصة واحدة.

في الفكر الليبرالي، ورغم ما يُوجَّه إليه من نقد، لا تُعدّ الثورة العنيفة مسارًا مفضّلًا لبناء الدول، بل تُقدَّم بوصفها خيارًا اضطراريًا لا يُلجأ إليه إلا عند انسداد السبل. فأدبيات هذا الفكر تميل، في جوهرها، إلى الإصلاح السياسي المتدرّج، وإلى التعامل مع التغيير باعتباره عملية واعية لا اندفاعة غضب.

وفي هذا السياق، أوضح روبرت باكينغهام سمات الثقافة الليبرالية الأمريكية في مقاربتها للتغيير:
أولًا: أن التغيير عملية قابلة للإدارة لا قفزة مجهولة.
ثانيًا: أن التقدم مسار تراكمي لا صدمة مفاجئة.
ثالثًا: أن الصراعات الراديكالية خيار غير مرغوب لما تخلّفه من فوضى.
رابعًا: أن توزيع القوة أضمن من تركيزها في يد واحدة.

ومن هنا، لا يعود السِّلم حالة حياد، بل أداة تغيير واعية، قد تكون – إذا أُحسن استخدامها – أقوى من الحرب. ففي لحظات معينة، لا يكون الامتناع عن القتال تراجعًا، بل تقدّمًا أخلاقيًا وسياسيًا في آن واحد.
ومن تلك اللحظة الفاصلة، خرجت عبارة قصيرة من رئيسٍ وقائدٍ عسكري مثخنٍ بالجروح، بين الحياة والموت: «يا أحمد… أنا بخير».

لم تكن مجرد طمأنة أب لابنه، بل إعلان موقف أمام التاريخ. ففي لحظة كان يمكن أن تُفتح فيها أبواب الجحيم، اختار إيقاف القصف لا توسيعه، وقطع سلسلة الدم لا تمديدها. وهنا لا يعود السؤال: من كان على حق سياسيًا؟ بل: من كان أكثر وعيًا بعواقب القوة حين تكون متاحة؟ والجواب كُتب لاحقًا في واقع اليمن.

وقد ذكر الشيخ صادق الأحمر أن علي عبدالله صالح، في تعاطيه مع الدم اليمني، كان يتجنّب منطق الإبادة والانتقام، لا عجزًا عن استخدام القوة، بل إدراكًا لما تجرّه من مسارات يصعب السيطرة عليها. فالقوة حين تنفلت، لا تعود أداة حكم، بل تتحول إلى عبء يدمّر الجميع.

كنا نعيش أخطاءً وفسادًا كان يحتاج إلى إصلاح وضغطٍ شعبي حقيقي، لا إلى تفجير شامل تقوده نخب كانت جزءًا من منظومة الخلل نفسها. فالتاريخ يخبرنا أن الحروب لا تبدأ دائمًا لأن الظلم بلغ ذروته، بل لأن طرفًا ما اعتقد أن العنف هو الحل الأسرع، مع أن التجربة الإنسانية تؤكد أن الحرب قد تشفي رغبة في الانتقام، لكنها لا تبني وطنًا.

ولهذا قرر الإسلام مبكرًا قاعدة فاصلة في ميزان التغيير: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾، أي أن تمزيق المجتمع أخطر من أي مواجهة محدودة، وأن العنف الذي يولّد فتنة لا يُنتج إصلاحًا، بل كارثة مؤجلة.
التاريخ البديل ليس ترفًا فكريًا، بل تمرينًا قاسيًا على الحكمة.
في أوروبا، ظهر هذا المنهج ليسأل: ماذا لو لم تُختر طرق العنف؟ ماذا لو أُغلقت بوابات الحرب قبل أن تُفتح؟ وكيف كان يمكن للأمم أن تتغيّر لو أن لحظة عقلٍ واحدة سبقت لحظة غضب؟

واليوم، يفرض السؤال نفسه علينا بمرارة أشد: ماذا لو أوقفنا الأحقاد قبل أن يكتمل قمر الخراب؟ ماذا لو كُسر تسلسل الانتقام قبل أن يتحوّل إلى قدر؟
«يا أحمد… أنا بخير» ليست جملة عابرة، بل نقطة انعطاف في تاريخٍ كان يمكن أن يذهب أبعد في الدم. إنها شهادة على أن السِّلم، حين يُختار بوعي، لا يكون انسحابًا، بل إنقاذًا للمستقبل. وأن القتل، مهما بدا مبررًا، لا يُنهي صراعًا، بل يؤجله بثمنٍ أفدح.
هكذا يعلّمنا التاريخ، الحقيقي والبديل معًا، أن الطريق الذي لا نسلكه أحيانًا هو الذي كان سينقذنا. وأن السؤال الذي يأتي متأخرًا هو دائمًا ذاته:
هل كان يمكن أن نختار طريقًا آخر؟

تعليقات