أخرجُ من ضلعكَ يا أبي،
محمّلةً بالعمرِ الضامر،
بوخزٍ في الذاكرة،
بظلٍّ يرتجفُ خجلاً،
يعتلي سبعَ أمنيات.
أخرجُ من ضلعكَ،
كجسدٍ ينسلُّ عاشقاً
إلى قلبِ شاعرٍ
لا تغتسلُ فيه القصائدُ،
ولا الحسناواتُ
في كلِّ ما يُكتب.
أخرجُ من ضلعكَ يا أبي،
أصعدُ، محروسةً بالملائكة،
إلى ثلاثينَ ألماً
تنغرسُ شظاياها
في ثنايا الشهقة،
وفي الأنوثةِ الممزوجةِ
ببخورِ اللبان.
أخرجُ لطردِ كلِّ عينٍ
وكلِّ شقاءٍ يحتويني،
ولأبدّدَ في أفقِ الفراغ
امرأةً ممتلئةً بالدهشة
وبماءِ الحياة.
أخرجُ من ضلعكَ يا أبي،
لتولدَ ذاتي،
وتفيضُ كانكسارِ الروح
من سنواتٍ طحنتها الأحزان،
ومن شوقٍ تافهٍ يشرخُ فرحي
كلّما فرحتُ
وعانقتُ شمسَ وجدانكَ يا أبي.
أخرجُ من طيّاتِ تلويحاتكَ،
متّكئةً يا أبي على رغبةٍ
ليست ككلِّ الرغبات،
وليست ككلِّ التضحيات،
وليست مثلي
حينَ أخرجُ بانتفاضةِ مشاعرٍ
توقدُ في المغيبِ لهفةً
يُخمدُها الغياب.
أخرجُ من بين يديكَ يا أبي،
كي أكونَ طفلةً كورْدِ البريةِ،
كموجِ الأحلامِ تحت رأسي.
أغرقُ،
أتنهدهُ،
أتلذذهُ،
وأسكبُ الأسرارَ فيه كبوحٍ مرتَّل
على شفاهِ الليلِ الغائرِ بالصمت،
وعلى معصمِ الوقتِ الضيّقِ بالمواعيد.
أنا البنتُ الوحيدةُ يا أبي
التي عانقتْ كُحلَ وجهكَ،
وكتبتْ على هوامشِ الجدران
أجملَ الخيالاتِ في لقائكَ،
في احتضانكَ،
في رائحتكَ،
في عنوانِ مجدكَ،
في هيبةِ صوتكَ
حينَ تلوموني.
أخرجُ من ضلعكَ يا أبي،
من أنفاسِ غربتِكَ،
من هذه الحقولِ اليافعةِ بين يديك.
أخرجُ من قلبٍ
يلفظُ الأنينَ مرّةً…
وثلاثاً…
وعشراً.
أخرجُ من ضلعكَ يا أبي،
كبنتٍ تبحثُ عن قوّتها
في صباحٍ يحملُ
ظلّكَ،
شوقكَ،
خطواتكَ،
وترابَ أرضٍ مشيتَ عليها،
كبيرةً جدّاً تشبهُ أحلامنا.
أخرجُ من ضلعكَ يا أبي،
مبتلّةً بالبكاء،
كحبٍّ مُعتّقٍ يروي الذكريات،
يروي هذا الفناء،
وهذا الجفافُ في قلوبنا.
وحدي أخرجُ من ضلعكَ،
لا إخوةَ معي،
لا وطنَ يحملُ
عبءَ الحياة معي.
أخرجُ مشرّدةً،
أحملُ كلَّ الآلامِ في جيبي،
وشجرةَ بيتِنا الصغيرة.
وحدي أخرجُ من ضلعكَ،
أسمعُ حشرجةَ صدري البارد،
وقلبي المتعبَ من أوّلِ حبٍّ،
من أوّلِ شغفٍ
ترميهِ الأقدارُ
تحت عجلاتها.
أخرجُ من ضلعكَ يا أبي،
أبحثُ عن رجلٍ يُشبهك،
يعقدُ لي ظفائري،
ويصنعُ لي طوقَ ياسمينٍ شاميٍّ
أزيّنُ به عنقي كلَّ صباح.
وحدي أخرجُ
إلى مدىً مدوٍّ بالانفجارات،
متّكئةً على وجعي،
على مرآةٍ مُعجبةٍ
بكلِّ انحناءاتي،
وبكلِّ عجزي المتأجّجِ بالجراح.
وحدي يا أبي،
كحبرٍ يفرُّ من قفرِ التعاسة
إلى وميضِ آخرِ الأغنيات.
وحدي أخرجُ،
مخضّبةً بالدماء،
كأيّ بنتٍ جاءتْ من سهولِ قريتها،
من تريم،
تمشّطُ فردوسَ نخيلها العالي،
تمشّطُ بأناملِ شوقها
صحراءَها وأنهارَها،
ويعتريها ألفُ معنى يا أبي.
أخرجُ من ضلعكَ يا أبي،
كعصفورةٍ تبحثُ عن وترٍ
يهزُّ صوتَها للتغريد
في هذا الفضاء،
وعن سؤالٍ يحطّمُ قيودَ المألوف
في قبيلتِها،
وعن تربةٍ تحتضنُ رفاتَها
لتُنبِتَ أقحوانًا مضيئًا
من الحرية والقصائد.