فارس البيل
أستاذي ومعلمي الأول، الناقد العربي الكبير البروفيسور / محمد عبد المطلب في ذمة الله..
منذ دلفت إلى المدرسة لا أتذكر معلماً واحداً كان له الأثر في حياتي، حتى حصلت على معلمي القدوة في آخر
مراحل تعليمي، مرحلة الدكتوراه
الناقد الكبير وأستاذ الأجيال البحاثة الملهم، أستاذ النظريات وصناجة الأدب وشارح البلاغة الكبير.
حين التقيت به لأول مرة طلباً للتتلمذ على يديه، ليمنحني فخر إشرافه على رسالتي للدكتوراه، وكنت قد انتقلت من جامعة القاهرة إلى جامعة عين شمس لأجل اثنين، الدكتور محمد عبد المطلب والدكتور صلاح فضل.. كي أظفر بأحدهما
والحقيقة أني ظفرت بهما معاً، لكني رغبت أكثر بالتتلمذ على يد الدكتور محمد عبد المطلب، رغم ما سمعته عن حزمه وشدته على تلاميذه، ودقته المتناهية في كل شيء، إلا أنني وجدته أباً قبل أن يكون معلماً..
أفسح لي في قلبه مكانة، وهكذا كان يفعل مع كل تلاميذه ومن عرفه، ثم قربني حتى صارت مكتبته الخاصة في شقته العتيقة بمصر الجديدة، مرتعاً لي… وكلما زرته في بيته عدت بحصيلة ثمينة.. لا يمانع بأن اتطفل على مكتبته واقتنص منها ما أشاء… لا ينسى فقط أن يشير لي إلى ثلاجته
الممتلئة بالعصائر لضيوفه.
كان يسكن وحيداً في شقة طويلة منذ سنين .. وكنت ترى كتبه وأرواقه في كل شبر فيها..
منذ أول لقاء، وكان في الثمانينيات من عمره، أدركت قيمة الوقت عنده، تأخرت دقيقتين فقط عن موعدي.. فوبخني بشدة.. رغم أني كنت انتظر على الباب..
بعدها لم أتأخر دقيقة واحدة..ولم أتقدم عنده.
ما إن أدرك رغبتي في التعلم حتى منحني من العلم ومفاتيح المعرفة ما شاء له الله..
لا يدخر شيئاً ليهبك، ولا يحتفظ بمعلومة دون أن يسديها بكل تواضع وحب.

كان صاحب نظام صارم في حياته، وترتيب دقيق لوقته، وهذا ما جعله يترك عشرات المؤلفات ومئات الأبحاث تجول في ثنايا الجامعات العربية والأجنبية، ويفيد منها آلاف الباحثين والطلاب والأساتذة على السواء.
يصحو باكرا.. يقرأ حتى موعد ذهابه الى الجامعة، يعود عند الظهيرة، ينام قليلا ثم يعود لكتبه حتى المساء.. في الليل يفتح تلفونه الأرضي لساعتين فقط، للرد على مكالمات أصدقائه وطلابه، ثم ينزعه.. وكانوا يعرفون مواعيد تلفونه بالضبط..
يعود للكتابة والقراءة.. حتى موعد نومه..
توقف عن متابعة الأخبار والتلفزيونات تماماً منذ ليلة سقوط بغداد.. أخبرني ذات يوم عندما سألته.. قال من ساعتها شعر بانهيار كرامة العرب..ثم توقف كلية عن متابعة أي شي…رغم أنه كان يحلل لكل شيء أروع من السياسيين المخضرمين.
قال لي وأنا اقدم له رسالتي للدكتوراه في فترة قياسية لأجل إجراءات المناقشة… (انت مستعجل على ايه…اليمن هيكون فيها حرب! ) كان ذلك قبل اندلاع الحرب بشهور طويلة.. وقبل أن يكون هنالك نذر لها أصلا…كانت بدأت أيام الحوار الوطني في اليمن.
كان صديقاً حميما لمفكري وأدباء وكتاب العرب، وعلى رأسهم الدكتور عبد العزيز المقالح، حتى أن المقالح دعاه لليمن عدة مرات كاستعارة في بعض المحاضرات المهمة في جامعة صنعاء أو للمناقشة في الرسائل الكبرى في جامعة صنعاء..
أحب صنعاء كثيراً..وكم كان يمدحها ، ويثني على طعامها وهوائها وشايها.. وحتى قاتها الذي جربه لمرة واحدة بطلب من الدكتور المقالح.. وأخبرني انه لم ينم ليلتها وكان على موعد في الصباح لمناقشة علمية ثرية حضرتها نخبة اليمن..
نال كثيراً من الجوائز المرموقة.. واحتفى به الكثير من المسئولين العرب، منهم الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة الذي قربه منه كثيرا.. ومع ذلك أخبرني أن القاسمي سأله ذات مرة… صارت الشارقة مدينتك المفضلة الثانية بعد القاهرة.. لكنه فاجأه بالقول ..بل صنعاء !
وحين منحه الملك سلمان جائزة الملك فيصل العالمية مازحه بالقول اسمك محمد عبد المطلب وانت ساكن في السيدة وحبيبك في الحسين.. على غرار الاغنية الشهيرة.
رحم الله أستاذ الأجيال .. الذي لم أجد في تواضعه رغم علمه الغزير… وفي نبله رغم مشاغله.. وفي أبوته ولطفه رغم قيمته ومكانته العالية..
ولعل المتعالمين وأنصاف المواهب وأصحاب الكتاب والكتابين أن يتعلموا من تواضع هذا الرجل.. الذي كان يقول دائماً: كلما زاد الانسان علماً؛ جعله العلم أكثر تواضعاً .. كأنما يثقله ويجعله أكثر ليونة للناس… والعكس من ذلك