تسعى الرياض في لحظة سياسية حساسة إلى بناء منظومة شراكة استراتيجية شاملة مع واشنطن، تشمل الدفاع والاقتصاد والتكنولوجيا النووية، وتفتح الباب أمام إعادة هندسة للتوازنات الإقليمية، غير أن ثمة أمر بالغ الأهمية يتم تجاهله بصورة لافتة، اليمن الذي يمثل البوابة للأمن القومي الخليجي والفضاء الأكثر حساسية في معادلات النفوذ الإيراني وأحد أهم مسارح الاشتباك الجيوسياسي في المنطقة.
ورغم أن التحولات الجارية تُنذر بتشكل معادلة أمنية جديدة، فإن مسار التفاهمات السعودية الأمريكية ما تزال تعاني من فجوة كبيرة تتمثل في غياب رؤية حقيقية لمعالجة الأزمة اليمنية التي لم تعد صراعاً محلياً، إنما عقدة إقليمية لها ارتدادات مباشرة على الأمن الخليجي والملاحة الدولية ووحدة الجغرافيا السياسية في جنوب الجزيرة العربية.
من هنا تأتي أهمية تقييم زيارة ولي العهد محمد بن سلمان إلى واشنطن من منظور يضع اليمن في قلب المعادلة بدلاً من هامشها.
ولذا فمهما بلغت أهمية التفاهمات الاستراتيجية المنتظرة بين الرياض وواشنطن، فإنها تبقى ناقصة ما لم تُصيغ رؤية حقيقية تتناول المأزق اليمني بوصفه جوهر الأمن الإقليمي، فثمة أمور لا يمكن تجاهلها، لا استقرار للسعودية من دون يمن آمن، ولا هندسة لشراكة دفاعية ممتدة من دون معالجة جذرية للصراع المستعر منذ أكثر من عقد، ولهذا فإن نجاح زيارة ولي العهد إلى واشنطن سيُقاس بقدر ما تحمله من حلول لليمن، وليس فقط بما تحصده المملكة من التزامات دفاعية أو اقتصادية.
اليمن اليوم يقف عند لحظة مفصلية، لحظة تُلامس حدود الانهيار العام إن تُركت بلا معالجة، فالحرب لم تعد مجرد صراع حدودي، إنما أزمة سياسية وإنسانية واقتصادية تضرب بنية الدولة والمجتمع معاً، وتتسع آثارها لتشمل المجال الحيوي السعودي، وعلى الرياض أن تدرك أن المتغيرات الإقليمية لا تسمح باستمرار سياسة تأجيل الحل، إذ لم تعد أدوات الردع ولا ترتيبات التهدئة كافية لحجب المخاطر المتنامية.
لكن في المقابل، يبدو أن الملف اليمني ما يزال خارج دائرة الأولوية في أجندة التحالفات الجديدة، رغم أن المنطق الجيوسياسي يقول إن استقرار أي شراكة دفاعية بين الرياض وواشنطن يبدأ من تأمين الخاصرة الجنوبية، وما تجاهل الرئيس ترامب وولي العهد لذكر اليمن خلال مؤتمرهما الصحفي إلا إشارة مقلقة تصعب قراءتها بمعزل عن هذا السياق، وكأن الحرب بكل أثقالها لم تكن سوى تفصيل ثانوي لا يستحق التوقف عنده.
إن الفجوة في المقاربة هي العودة إلى واشنطن دون رؤية يمنية، وعلى الرغم من السعي الواضح لانتزاع التزامات دفاعية أمريكية، إلا أن تجاهل اليمن في المسار التفاوضي يطرح تساؤلات عديدة، وفي الحقيقة غياب اليمن عن هذه الزيارة يشير إلى ثلاثة احتمالات أولاً، اعتبار الملف معقداً أكثر من أن يُدرج في حزمة واحدة، وهو ما يخشى الخبراء أن يؤدي إلى استمرار المراوحة، وثانياً، تفضيل الرياض فصل المسارات وعدم ربط الشراكة الدفاعية بالحل السياسي في اليمن، وأيضاً رغبة واشنطن في إدارة الملف عبر أدوات ضغط منفصلة مرتبطة بإيران لا بالسعودية، لكن في المجمل فإن الواقع الميداني يقول إن أي ترتيبات دفاعية لن تصمد إذا استمر اليمن في حالة فراغ استراتيجي، إذ أن التهديد الحوثي لن يتراجع بمجرد توقيع اتفاقيات مع واشنطن، وهذا ما يجب ربما اخذه بعين الاعتبار.
اللافت في الأمر والغريب أن الرئيس ترامب ذكر في كلمته خلال مأدبة العشاء أن ولي العهد السعودي طلب منه التدخل في السودان، ليرد عليه ترامب بأنه تفاجأ بهذا الطلب، وأن السودان لم يكن ضمن خططه، مضيفاً أنه سيُشكل فريق لمتابعة الأمر.
هذا التطور يفتح باباً واسعاً للتساؤلات: ما الذي وجدته الرياض في سوريا والسودان ولم تجده في اليمن؟ ولماذا بات أمن هذين البلدين يحظى بأولوية في الحسابات السعودية مقارنة بالملف اليمني الذي يمس عمق الأمن القومي الخليجي والسعودي مباشرة؟ إن هذا التساؤل لا ينبغي أن يوجه إلى الرياض وحدها، بل ويوجه أيضاً إلى الشرعية اليمنية التي يقع عليها عبء توضيح الأسباب التي جعلت اليمن يبدو في نظر الحلفاء والأطراف الإقليمية ساحة أقل إلحاحاً من ساحات أخرى لا ترتبط بالأمن الخليجي كما يرتبط اليمن بالخليج.
حالياً يبدو الوضع في اليمن أشبه بمركب يتلاطم به الموج يميناً ويساراً ولم يستوي على كفة واحدة، فليس هناك طرف يمتلك السيطرة المطلقة على البلاد، ولا توجد حالياً قوة قادرة على فرض معادلة حسم نهائية، هذا التشتت في موازين القوى يجعل الأزمة أكثر تعقيداً، ويزيد من صعوبة أي مقاربة إقليمية أو دولية لا تنطلق من إدراك هشاشة الوضع الداخلي وتعقد توازناته.
وعلى هذا الأساس، فإن الاعتقاد بأن ملف اليمن يمكن أن يُطرح على الهامش أو في أحاديث جانبية هو أمر مستبعد تماماً، فملف بهذا الحجم وبهذه التشابكات السياسية والعسكرية والإنسانية لا يمكن أن يكون موضوعاً في كواليس اللقاءات، يجب أن يكون جزءاً من محادثات رسمية وواضحة المعالم، تُدار ضمن رؤية شاملة تتناسب مع خطورته وتأثيره المباشر على الأمن الخليجي والإقليمي.
شعبياً يتخوف الشارع اليمني من أن تتحول بلادهم إلى فراغ استراتيجي تُدار حوله التفاهمات دون أن يكون جزءاً منها، وهذا ما يعيد إلى الذاكرة تحذيرات الرئيس الشهيد الزعيم علي عبدالله صالح، حين أشار مراراً إلى مغبة الانجرار في حرب مفتوحة داخل اليمن، وإلى أن باب هذه الحرب إن فُتح فسيمتد ويصعب إغلاقه، وأن تداعياته لن تقف عند حدود اليمن وحده، وهي كلمات بدت آنذاك بعيدة، لكنها اليوم تفرض حضورها بقوة.
يدرك اليمنيون اليوم أكثر من ذي قبل أن مستقبل بلادهم لن يُصاغ في غرف مغلقة أو بيانات دبلوماسية صامتة، وإن لم تكن اليمن حاضرة في صلب الترتيبات الإقليمية المقبلة، فإن كل ما عدا ذلك سيظل حلولاً مؤقتة لا تعالج أصل المشكلة.
والخلاصة أن تجاهل اليمن لم يعد خياراً ممكناً، فإما أن تُدمج القضية اليمنية في جوهر الشراكة السعودية الأمريكية، وإما أن تبقى المنطقة كلها رهينة حرب مفتوحة لن تُغلق إلا بثمن أكبر بكثير مما هو كائن اليوم.