تُنسب الإباضية إلى عبدالله بن إباض التميمي.
ورغم أنها تُصنّف ضمن فرق “الخوارج” التي أشاعت الاضطراب والتمرد في أرجاء دولة الخلافة، إلا أن الإباضية في عُمان فقدت حرارتها الثورية، بل وتحوّلت في النهاية إلى عامل استقرار وانتظام سياسي-ديني.
ربما يعود ذلك إلى قدرتها على التكيف مع الظروف المحلية، وتطوير تجربة “إمامية” معتدلة على مدى قرون. وفي العصور الحديثة اختفت الإمامة الإباضية، الدينية والسياسية، تماماً من عُمان لصالح صيغة حكم سلطاني وراثي “دنيوي”.
كان الخوارج بجميع فرقهم يرفضون رفضاً قاطعاً اشتراط النسب القُرشي في من يتولى منصب “الإمامة/ الخلافة”، فهم يرون أن الإمامة عامة “يتولاها الأكفأ من المسلمين”
وهذا الموقف سرّ من أسرار ثورانهم الدائم خلال القرون الأولى من تاريخ الإسلام.
تتفق الإباضية مع سائر الخوارج على تكفير عثمان وعلي ومعاوية وأصحابهم والحَكَمين ومن رضي بالتحكيم. وقد يقول آخرون إن الإباضية لا تكفّر علي بن أبي طالب، وإنما تعتقد “أنه فرّط في إمامته بقبوله التحكيم مع معاوية، أما موقفها من عثمان فكموقف الثوار الذين خرجوا عليه وقتلوه، وأما معاوية فيغلب على موقفها منه الازدراء والرفض”.
تأسس نظام الإمامة الإباضي في عمان لأول مرة في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي).
وبموجب الفكر السياسي لهذه الفرقة، يجري اختيار الإمام عن طريق الانتخاب “من بين أهل الديانة والصلاح”.
في عهد الدولة اليعربية التي حكمت في عمان من 1624م إلى 1741م، تم إهمال وخرق شروط الإمامة الإباضية، كما يقول باحث عماني، وذلك بالتحول إلى نظام سلطاني سلالي وراثي: “ورغم الإبقاء على تقليد انتخاب الأئمة فإن انتماء هؤلاء إلى الأسرة نفسها أفرغ هذا التقليد من محتواه الديمقراطي إلى أن أطاح به. وتعرضت هذه التجربة الفريدة إلى أخطار داخلية أدت بها إلى حرب أهلية محتومة”، (حسين غباش، “الديمقراطية الإسلامية، تقاليد الإمامة والتاريخ السياسي الحديث”، ص78).
عام 1741م، قامت الدولة البوسعيدية، وهي الأسرة الحاكمة اليوم في عمان، خلفاً للدولة اليعربية.
منذ ذلك الحين، أخذت الإمامة الإباضية في الإضمحلال، إذ “لم يهتم كل من تولى عرش السلطنة من هذه الأسرة باتخاذ لقب إمام، إلا في عهد أحمد بن سعيد الذي تولى الحكم في الفترة بين 1741م و1783م، وفي عهد ابنه سعيد ابن أحمد الذي تولى الحكم 1783م و1803م.
ولم ينتخب الإباضيون إماماً من الأسرة البوسعيدية إلا عزان بن قيس عام 1868م”، (مؤيد باسم حمزة، “نظام الإمامة في عمان بين العام 1913 و1920”).
بقي هذا الحال إلى العام 1913م، عندما اجتمعت قبائل عُمان الداخل لانتخاب إماماً على الطريقة الإباضية، وهي الخطوة التي أطلقت شرارة الثورة ضد سلطان مسقط.
وقع اختيار القبائل على سالم بن راشد الخروصي إماماً، وتم الإعلان عن مدينة نزوى كعاصمة للإمامة وللثورة.
تشكلت حكومة محلية، ونقضت معظم القبائل بيعتها للسلطان في مسقط والتفَّتْ حول الإمام الخروصي، واستولى الجيش التابع له على مناطق كثيرة من عمان ما عدا مسقط ومطرح.
تدخَّل الإنجليز لصالح السلطان فيصل بن تركي البوسعيدي ثم إلى جانب ابنه تيمور.
لكن بعد ذلك قاموا بدور الوساطة بين الإمام والسلطان، وهو ما أسفر عن التوقيع على اتفاقية السيب عام 1920.
بموجب تلك الاتفاقية انقسمت عمان إلى دولتين: الداخل تحت حكم الإمام، والساحل تحت حكم السلطان وعاصمته مسقط.
سقطت الإمامة الإباضية في عُمان نهائياً عام 1959م، بعد اكتشاف النفط وبدء الإنجليز التنقيب عنه في مناطق نفوذ الإمامة، مما أدى إلى تصادم مسلح بين الطرفين انتهى بزوال الإمامة وتثبيت حكم السلطان على كامل عُمان.
وكانت أجزاء من اليمن، في الشمال والشرق، معقلاً مهماً للحركة الإباضية لعدة قرون، وبلغت الذروة أواخر الدولة الأموية، حين أعلن عبدالله بن يحيى الكِندي، الملقب بـ(طالب الحق)، الثورة على الأمويين انطلاقاً من حضرموت سنة 127هـ / 745م، حيث بايعه كثير من أهل تلك المناطق.
بعد أن استولى “طالب الحق” على حضرموت، تحرك مع أنصاره نحو صنعاء، فسيطر عليها، ودانت له مناطق واسعة من اليمن.
ويقال إن نفوذه امتد حتى مكة والمدينة، قبل أن يبعث الأمويون حملة كبيرة بقيادة عبدالله بن محمد بن عطية السعدي لقمع التمرد، ونجحوا في ذلك.
وعلى الرغم من هزيمة “طالب الحق”، ظلت الإباضية منتشرة -إلى جانب حضرموت- في صنعاء وغربها، في مناطق (قُدَمْ) بحجة والشرفين، إلى أن دخل أتباعها في صراع عنيف مع أتباع الزيدية الهادوية وأتباع المذهب الإسماعيلي، ما أدى إلى تحول كثير منهم إلى الزيدية وأحياناً إلى الإسماعيلية.
أشار الباحث الروسي فرانتسوزوف إلى أن للتحزب القحطاني/ العدناني دوراً في الانتساب إلى الفرقة الإباضية، لا سيما في الحجاز، حيث ارتبط أغلبية الخزاعيين القحطانيين بالإباضية رداً على هيمنة الطبقة القرشية -بفرعيها الأموي والهاشمي.
وكان أغلب همدانيي حضرموت إباضيين.
يقول نشوان الحميري: “ومن الإباضية باليمن: طائفة من همدان في مغارب همدان، ومنهم أيضاً طائفة بحضرموت من همدان أيضاً من بشق، بطن من بطون همدان”، (نشوان الحميري، الحور العين، ص202 و203).
ولما بلغت جيوش الحركة الإسماعيلية بقيادة علي بن محمد الصليحي (الهمداني) حضرموت سنة 455هـ / 1063م، تصدى لها الإباضيون المحليون، “الذين كان يتزعمهم أبو إسحاق إبراهيم بن قيس الحضرمي الهمداني، الذي غالباً ما يقترن اسمه بآخر دفعة لنشاط الإباضيين في حضرموت”، (فرانتسوزوف، مصدر سابق، ص192).
وهكذا تغلّبت الآصرة المذهبية على الآصرة القبلية الهمدانية.
يقال إن الإباضية ظلت مهيمنة في حضرموت حتى وصول الإمام المهاجر أحمد بن عيسى سنة 318هـ، واستيطان السادة العلويين فيها، “فقام المهاجر بنصرة السنة حتى استقامت بعد اضمحلال، وأقعد النسب الهاشمي في علياء رتبته”، (المشرع الروي في مناقب السادة الكرام آل باعلوي، محمد بن أبي بكر الشلي باعلوي).
وقيل إنها لم تختف من حضرموت إلا على يد الأيوبيين لاحقاً.
ويتحدث فرانتسوزوف عن دخول الإباضية في حضرموت، بين حين وآخر، تحت سيادة الإمامة العمانية.
ويطيل المؤرخون العلويون الحضارم الحديث عن معركة “بحران” في حضرموت بين الإباضية من جهة، وأنصار المهاجر (من سنة وشيعة) من جهة أخرى، والتي يقولون أنها انتهت بهزيمة ساحقة للإباضية.
ويلمح فرانتسوزوف إلى التحيز المذهبي لدى المؤرخين ذوي الاتجاهات العلوية، قائلاً: “وهذه الاتجاهات المذهبية نفسها جعلت عدداً من أنصارهم ينكر وجود الإباضية أصلاً في حضرموت”،
(فرانتسوزوف، مصدر سابق، ص193)،
(انظر أيضاً فصل: انحطاط الإباضية في حضرموت، ص195).
ويفسر فرانتسوزوف عداء العلويين الحضارم للإباضية قائلاً: “بما أن الإباضيين لا يعترفون بأية امتيازات لأحفاد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن السادة (في حضرموت) أصبحوا في خانة أعدائهم”، (مصدر سابق، ص196).
يميل هذا الباحث إلى الاعتقاد بأن الإباضية في حضرموت لم تختف دفعة واحدة، بل على نحوٍ تدريجي امتدّ عبر مئات السنين، مستدلاً بما ذكره ابن خلدون في تاريخه من أن أكثر أهل هذه المنطقة في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الميلادي “يحكمون بأحكام علي وفاطمة، ويبغضون علياً للتحكيم”، أي أن بغضهم لعلي بن أبي طالب هو امتداد للموقف الإباضي من واقعة التحكيم.
ويضيف فرانتسوزوف قائلاً: “وهكذا، فعلى الرغم من اعتراف الحضارمة بمكانة السادة المراتبية، إلا أنهم أبقوا على بعض ملامح الإيديولوجية الإباضية، والخارجية عموماً، والمتمثلة في تخطئة الإمام علي بن أبي طالب لقبوله التحكيم”، (فرانتسوزوف، مصدر سابق، ص197).
وقد انشغل المؤرخون الحضارم من الجانبين [العلوي والإباضي] طويلاً بالسؤال عن مذهب أحمد بن عيسى المهاجر.
بعض الكتابات التاريخية رأت أنه كان شيعياً جعفرياً، ثم تحول في حضرموت إلى المذهب الشافعي.
وأوضح المؤرخ العلوي عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف أن التجاذب المذهبي بين العلويين من نسل المهاجر من جهة، وعلماء المدن الحضرمية الكبرى من جهة أخرى، قد انتهى في لحظةٍ ما إلى التقاء الطرفين في منتصف الطريق “فالذين تديّروا تريماً من العلويين وافقوا المشايخ في الأخذ بمذهب الشافعي وبعض الآراء الأشعرية، وأكثر المشايخ بتريم وافقوا العلويين على القول بالقطبانية”.
القطب و”القطبانية” مصطلحات صوفية متأثرة بروح التشيع. فالقطب لقب يشير إلى رتبة ومقام روحي، يشبه في بعض جوانبه لقب الإمام لدى الشيعة.
وهكذا يتبيّن من مجمل الوقائع أن الإباضية كانت في اليمن، وخصوصاً في حضرموت، ظاهرةً دينية-سياسية ذات أبعاد تاريخية، اجتماعية وقَبَلية.
وقد مثّلت ثورة “طالب الحق” قمة صعودها السياسي، قبل أن تبدأ في الانحسار ومغادرة الساحة اليمنية نهائياً على مراحل تحت ضغط عوامل متعددة.
على أن التجربة الإباضية في عمان، كما ذكرنا في البداية، لا تخلو من المفارقة، وذلك بالنظر إلى تغيُّر طبيعتها من حركة خارجية ثورية على نحو دائم، إلى عقيدة خاملة سياسياً، متصالحة في الفكر وفي الواقع مع متطلبات الاجتماع والانتظام