منبر حر لكل اليمنيين

غياب التوريد إلى البنك المركزي… خلل استراتيجي يهدد الاقتصاد الوطني

رياض الأكوع

تُعد مسألة توريد الإيرادات العامة إلى البنك المركزي من الركائز الأساسية لأي نظام اقتصادي معاصر، فهي الضمانة الأولى لفاعلية السياسة النقدية، وأداة الدولة في ضبط المالية العامة وإدارة الاستقرار النقدي. غير أنّ الواقع اليمني يكشف عن اختلال بنيوي خطير، يتمثل في استمرار الوزارات والمؤسسات الحكومية بالامتناع عن توريد إيراداتها إلى البنك المركزي بعدن، وهو ما يفاقم الأزمة ويقوّض أسس الإصلاح.

غياب التوريد: انعكاسات نقدية واقتصادية

إنّ تشتت الإيرادات في حسابات متفرقة، خارج إطار البنك المركزي، يؤدي إلى شلل حقيقي في قدرته على إدارة السيولة والتدخل في سوق الصرف. ويترتب على ذلك:

إضعاف السياسة النقدية وفقدان السيطرة على حركة الأموال.

زيادة الضغط على سعر الصرف في ظل شح النقد الأجنبي.

تعميق عجز الموازنة وعجز الدولة عن الوفاء بالتزاماتها.

إضافة إلى ذلك، فإن غياب التوريد يُشرعن حالة من الهدر والفساد المؤسسي، حيث تتحول بعض الجهات الحكومية إلى “جزر مالية” مستقلة، تدير إيراداتها بمعزل عن الرقابة والمساءلة، وهو ما يكرّس بيئة غير شفافة تضر بالثقة المحلية والدولية.

تعطيل الإصلاحات وفقدان الثقة الدولية

من المعروف أن المؤسسات الدولية ـ وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدولي ـ تشترط توريد الإيرادات إلى البنك المركزي كخطوة أولى قبل أي دعم أو تمويل. إن عدم الالتزام بهذا الشرط لا يُفقد اليمن فقط فرص التمويل، بل يوجّه كذلك رسالة سلبية للمجتمع الدولي بأن الدولة عاجزة عن إدارة ماليتها العامة وفق أبسط المعايير.

الأخطاء الاستراتيجية في القيادة

إلى جانب غياب التوريد، تواجه الدولة اختلالًا آخر يتمثل في الفراغات الوزارية داخل أهم الحقائب الاقتصادية:

وزارة المالية ما تزال بلا وزير منذ 3 مايو 2025، وهو تاريخ تعيين وزيرها السابق سالم بن بريك رئيسًا للوزراء. هذا الفراغ الاستراتيجي في وقت الأزمة المالية يمثل أحد أبرز عوامل الارتباك في إدارة الموارد العامة.

وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات بلا وزير منذ وفاة الدكتور نجيب منصور العوج في 12 ديسمبر 2023، وهو قطاع يُعد من أبرز الموارد الإيرادية للدولة.

إن هذا الفراغ المؤسسي لا يعكس فقط ضعف القرار السياسي، بل يشير إلى غياب رؤية استراتيجية لدى مجلس القيادة الرئاسي، الذي ترك مؤسسات سيادية بلا قيادة في وقت تحتاج فيه البلاد إلى أقصى درجات الانضباط والفاعلية.

المسؤولية والنتائج

من الخطأ اختزال الأزمة الاقتصادية في أداء البنك المركزي وحده. فالمسؤولية تقع بالأساس على الحكومة والقيادة السياسية التي لم تفرض التوريد ولم تُكمل التعيينات الوزارية. النتيجة المباشرة لهذا الإهمال هي تفاقم الانهيار النقدي، تعميق الفساد المؤسسي، واتساع معاناة المواطنين.

نحو معالجة واقعية

إن أي مسار إصلاحي جاد يبدأ بإجراءات واضحة وحاسمة:

1. إصدار قرار سياسي مُلزم بتوريد كافة الإيرادات السيادية (النفط، الغاز، الاتصالات، الجمارك، الضرائب، الموانئ) إلى البنك المركزي.

2. الإسراع في تعيين وزير مالية ووزير اتصالات، بما يعيد الفاعلية إلى الوزارتين السياديتين.

3. إعادة تفعيل الموازنة العامة وربط كافة أوجه الإنفاق بها، بما يعزز الشفافية والمساءلة.

4. استعادة الثقة الدولية عبر إظهار التزام فعلي بإصلاحات مالية ومؤسسية حقيقية.

خاتمة

الأزمة الاقتصادية اليمنية ليست حتمية، لكنها نتاج مباشر لغياب القرار المؤسسي والإرادة السياسية. استمرار الوزارات في الاحتفاظ بإيراداتها خارج البنك المركزي، وترك وزارات سيادية بلا قيادة، يمثل خطأ استراتيجيًا فادحًا يهدد ما تبقى من ركائز الدولة. الحل ممكن، لكنه يتطلب إرادة سياسية حازمة تعيد الاعتبار للبنك المركزي كوعاء جامع للموارد، وتغلق أبواب الفساد والهدر، وتستعيد ثقة الداخل والخارج في قدرة الدولة على إدارة اقتصادها.

تعليقات