منبر حر لكل اليمنيين

الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح… دروس اللحظة الأخيرة وشهادة التاريخ

مصطفى المخلافي

لا شك أن الكتابة عن الزعيم الشهيد البطل علي عبدالله صالح، وعن لحظته الأخيرة، لا تزال تثير ردود فعل متباينة تنطلق في الغالب من مواقف انفعالية مسبقة، إما تمجيداً مطلقاً أو خصومة سياسية مشحونة، فيما يغيب التحليل الهادئ والمقاربة الموضوعية، والكتابة في هذا المجال لا تسعى إلى إثارة الاصطفاف أو تحريك العواطف، بل إلى تقديم قراءة متماسكة قدر المستطاع لمسار رجل شكل جزءاً جوهرياً من التجربة السياسية اليمنية الحديثة، وكان أبرز الفاعلين في بناء الدولة وحماية الجمهورية، وتحمل بشجاعة مسؤولية صون الوطن في وجه الرياح العاتية، في زمن تعرض فيه اليمن لمشاريع تفكيك وتآمر غير مسبوقة.

في هذا السياق، من الضروري التمييز بين التحليل السياسي والموقف السياسي، التحليل لا يفترض التماهي مع شخص أو خصومه، بل يُبنى على قراءة الوقائع، وفهم العوامل الداخلية والإقليمية التي أنتجت لحظة السقوط، كما لحظة الصعود من قبلها، أما الموقف السياسي، فذلك شأن آخر يرتبط بما يختاره كل فاعل من موقعه الأخلاقي أو الإيديولوجي.

وانطلاقاً من هذا التمييز، يمكن القول إن كثيراً مما يُكتب عن الزعيم صالح يتسم بالاختزال في بعض النصوص، يُقدم وكأنه مجرد زعيم ماهر في المناورة، لكن هذا التوصيف يتجاهل حقيقة أعمق، أن الرجل كان رجل دولة، وركن الجمهورية، وباني اليمن الحديث، ومن خاض المعارك الكبرى لحماية السيادة والوحدة والاستقلال. أما ميليشيا الحوثي، التي يشار إليها أحياناً كنتاج لتكتيكات صالح، فهي في الحقيقة ثمرة فراغ سياسي أوجدته قوى المعارضة التي خرجت عليه عام 2011 تحت لافتة الثورة، والتي فتحت الطريق أمام الاختراق الإيراني، وأسهمت من حيث تدري أو لا تدري في ضرب أسس الدولة الوطنية.

إن تحميل الزعيم صالح مسؤولية صعود الحوثيين فيه تجاهل صارخ للوقائع، فقد كان أول من واجه هذه الجماعة منذ تمردها الأول، وقدم آلاف الشهداء في معارك الدفاع عن الدولة، وإذا حصل تقاطع ميداني لاحقاً، فكان نتيجة فرضتها ضرورات وطنية وإكراهات سياسية بعد أن تخلت النخب المعارضة عن مسؤولياتها، وانكشفت أجندات بعض القوى أمام مشاريع خارجية.

كذلك يُختزل تاريخ الزعيم أحياناً باتهامات مبسطة، وكأنه من قاد اليمن إلى الفوضى، بينما الواقع أن الرجل وقف مراراً في وجه الانهيار، وحافظ على بنية الدولة في أصعب الظروف، لم يكن صالح من سار في درب التمرد والانقلاب على الشرعية الدستورية، بل أولئك الذين قادوا موجة الخروج العشوائي عام 2011، ثم سلموا مفاصل الدولة لقوى لا تؤمن بالجمهورية.

يقول أحدهم أن علي عبدالله صالح درب الأفعى التي أكلته، في إشارة إلى ميليشيا الحوثي، لكنه ينسى أو يتناسى، أن صالح خاض ضد هذه الميليشيا ستة حروب، وقدم آلاف الشهداء من الجيش اليمني دفاعاً عن الجمهورية، والحقيقة أن الحوثي لم يكن صنيعة صالح، بل خرج من رحم فراغ صنعته المعارضة التي خرجت على الدولة عام 2011، فأسقطت النظام الجمهوري، ومهدت الأرض للتدخل الإيراني.

كما يتناسى صاحب هذا الطرح أن صالح سلم السلطة طواعياً، وغادر المشهد السياسي بإرادته، وتآمروا عليه داخلياً وخارجياً، وأن من جاؤوا بعده تصارعوا على فتات السلطة، وسهلوا للحوثي اجتياح مؤسسات الدولة، فكيف يصبح الرجل الذي قاوم المشروع الإمامي هو المسؤول عن تمكينه؟ ولذا فإن الحقائق لا تتبدل بالبلاغة، وصالح لم يكن حليفاً للحوثي بل خصماً شرساً لهم منذ اليوم الأول.

وأضاف: أن صالح أجاد اللعب ثم قضت عليه اللعبة، لكنه في ذات النص يصفه بـ الشجاع والشهم، ويقول أنه واجه التنين وحده، فأي من الروايتين نُصدق؟ وهل يموت مناور في قلب المعركة، حاملاً سلاحه، أم زعيماً أدرك أن لا خيار إلا المواجهة؟

كما يغيب عن صاحب هذا السرد أن الزعيم الشهيد قرر نقل المعركة من منزله إلى موقع آخر، تفادياً لسقوط ضحايا مدنيين بسبب قذائف الحوثي التي كانت تنهال على الحي، ولم يهرب، فقط قام بتغيير مسار المعركة حفاظاً على الأبرياء، ولو أراد النجاة، لبقي مختبئاً أو غادر قبل الانفجار، لكنه خرج للناس، ودعاهم أمام الأشهاد وفي وضح النهار للانتفاضة، وقاد بنفسه لحظة الكرامة الأخيرة.

ثم يقول إن اليمن بعد صالح بلا قائد، ويصيب في ذلك دون أن يدري، نعم بلا قائد منذ استشهاده، لم يأتي بعده من يحفظ القرار، ولا من يحمل مشروع دولة، فهل يُدان الرجل الذي رحل بشرف، أم يُسأل من بقي بلا مشروع ولا وجهة؟

من المؤلم أن رحيل الزعيم كشف هشاشة الواقع السياسي من بعده، فهو لم يكن مجرد رئيس سابق، بل كان القائد الأخير الذي يجمع شتات اليمنيين، لم تستطع أي شخصية أن تملأ الفراغ الذي تركه، لا رمزياً ولا فعلياً، الدولة بعده تشظت، وتحولت السلطة إلى كيانات مرتهنة، وتصارعت الولاءات بين عواصم الخارج.

إن الذين يتصدرون المشهد اليوم لا يحملون مشروعاً، ولا يمتلكون كاريزما الزعامة أو عبء المسؤولية التاريخية، ولذلك يقف اليمن اليوم أمام مفترق طرق، وسط صراعات تتغذى على غياب الدولة، وانهيار التوازن، وتغلغل المشاريع الإقليمية التي ولدت من رحم الفراغ الذي تركه صالح.

إن ما نشهده حالياً ليس سوى نتيجة طبيعية لغياب الزعيم، فاليمن بعده بلا قرار وبلا مشروع وطني جامع، أما هو فقد اختار أن يموت في قلب المعركة، لا على هامشها، وأن يكون القائد الشهيد، لا الرئيس التائه.

لا يمكن إنصاف الرجل إلا بقراءته في سياقه الكامل، لا من خلال قصاصات إعلامية أو أحكام متعجلة، لقد استشهد علي عبدالله صالح واقفاً، وترك خلفه أسئلة كبرى لا تزال تبحث عن إجابات؟ كيف يُبنى الوطن؟ ومن يملأ فراغ القائد؟ وكيف نحمي جمهوريتنا من طغيان المليشيات؟

ختاماً:

إن الكتابة عن الزعيم الشهيد البطل علي عبدالله صالح ليست استعادة لماضي غادرَ، بل مسؤولية وطنية لفهم حاضر مأزوم، لقد اختار الرجل أن يواجه وأن يموت شجاعاً على أن يحيا خانعاً، معركته الأخيرة لم تكن نكوصاً عن ماضي، بل كانت وفاءً لوطن، وصرخة استنهاض من أجل أمة، وحين خرج من منزله، كان يعلم أنه ذاهب إلى الشهادة، لكنه أراد أن تكون الشهادة بحجم الوطن، ولذلك فإن السؤال الذي يجب أن يبقى حياً هو؟ هل بقي من اليمنيين من يجرؤ على السير في درب صالح؟ وفي درب الجمهورية والسيادة والكرامة؟

تعليقات