منبر حر لكل اليمنيين

النكسة الإيرانية ومحور الممانعة: انهيار الأساطير ومستهل التحول

جلال الحلالي

على مدار أكثر من أربعة عقود، تبنّى النظام الإيراني استراتيجية ثابتة تمثلت في تصدير الأزمات – لا حلّها – كوسيلة لضمان بقائه. لم يعتمد هذا النظام على برامج تنموية أو بناء مؤسسات مدنية قوية، بل على أدوات خارجية: ميليشيات تدين له بالولاء العقائدي، وتدخلات إقليمية تحت شعارات دينية وأيديولوجية، مقابل غياب برنامج اقتصادي مستدام أو منظومة عسكرية وطنية يمكن أن تكون بديلاً للتمدد الخارجي.

منذ لحظة اقتحام السفارة الأميركية في طهران عام 1979، بدا أن النظام قرر افتعال المواجهة الدائمة كبديل لتناول متطلبات الاستقرار الداخلي. تبع ذلك مبدأ “تصدير الثورة” الذي ترجم لاحقاً إلى دعم مباشر لميليشيات طائفية في لبنان والعراق وسوريا واليمن، وخلق شبكات عابرة للحدود تسعى لإعادة تشكيل المنطقة وفق النموذج الأيديولوجي للولي الفقيه الذي اصطدم كلياً بالهويات الوطنية.

لكن نكسة يونيو 2025 كشفت عن تصدّع عميق في هذا النموذج تجلّى في الانسحاب المفاجئ أو الصمت والسبات شبه التام للميليشيات المدعومة من إيران – في زمن المواجهة المصيرية. مثّل هذا مؤشراً على انتهاء زمن هذا “التحالف الممانع”.
هذه القوى، التي طالما تغنّت بمقاومة الاحتلال ومناهضة الهيمنة، فضّلت الحفاظ على ما تبقى من وجودها المحلي بدل التورط في مواجهة تخدم أجندة إقليمية فقدت مشروعيتها.

نكسة أو فضيحة يونيو ستُسجل في الذاكرة السياسية الإقليمية باعتبارها لحظة انهيار فكرة ما كان يُعرف بمحور “الممانعة”.
لم يكن السقوط عسكرياً أو دبلوماسياً فحسب، بل فكرياً ونفسياً، إذ انهارت سرديات كانت تُسوّق على أنها بديل للنماذج القومية أو الليبرالية في العالم العربي.

أبرز ما سقط في هذه المرحلة هو أسطورة المقاومة الطائفية التي تقودها نخب دينية أيديولوجية مرتبطة عضوياً بالنظام الإيراني. وما بدا سابقًا كتحالف “تحرري”، تبيّن أنه شبكة وظيفية لا تعمل إلا بوجود التمويل الإيراني والدعم اللوجستي، وأن ولاءها الأيديولوجي لا يتجاوز براغماتية البقاء.

كذلك، انهار ما يمكن تسميته بـ”النموذج الإيراني”، أي فكرة بناء قوة عسكرية إقليمية في ظل اقتصاد داخلي هش، وشعب ناقم ومحاصر بالعقوبات والتضييق السياسي والاجتماعي. هذا التناقض البنيوي بين طموحات خارجية هائلة ومجتمع داخلي مأزوم أثبت أنه غير قابل للاستدامة.

إن تراجع الدور الإيراني لا يعني بالضرورة استقرارًا تلقائيًا في الشرق الأوسط، لكنه يخلق فراغًا استراتيجيًا يفتح الباب أمام تحولات جديدة. الملف اليمني، على سبيل المثال، مرشح لاستئناف مسارات جديدة من داخله، فيما القضية الفلسطينية قد تتحرر من الخطاب الشعبوي الذي ربطها بنموذج “الاستشهاد الدائم” بدلًا من التفاوض والواقعية السياسية.

هذا لا يعني نهاية الصراعات أو بداية حقبة مثالية، بل فرصة لإعادة صياغة المعادلات بعيدًا عن الأدلجة، سواء دينية أو يسارية.
الشرق الأوسط أمام اختبار سياسي جديد، يتطلب نخبًا قادرة على تجاوز “الأسطرة” إلى ممارسة الفعل السياسي الناضج، حيث تصبح المقاومة جزءًا من مشروع وطني عقلاني، لا أداة في مشروع إقليمي ذي أبعاد طائفية.
ويعود السؤال المزمن،، متى نتعلم الدرس؟

تعليقات