تُبنى العلاقات بين الدول على المصالح لا على العواطف، وهذه قاعدة ثابتة في السياسة الدولية. لكن العلاقة بين اليمن ودول الخليج كثيرًا ما تُطرح بلغة عاطفية، وكأن اليمن حالة إنسانية تحتاج إلى تبنٍّ دائم أو وصاية خارجية. هذه النظرة تختزل بلدًا غنيًا بالموارد والتاريخ والموقع الاستراتيجي في صورة عبء أمني أو إغاثي، وتغفل عن حقيقة جوهرية: اليمن، إذا ما أُحسن التعامل معه، هو فرصة اقتصادية واستراتيجية لا تقل أهمية عن أي دولة في الإقليم.
اليمن يملك موقعًا جغرافيًا فريدًا، يتحكم بواحد من أهم الممرات البحرية في العالم، ويرتبط بمحيطه الأفريقي والآسيوي من خلال سواحل طويلة وعمق حضاري عريق. عُرف اليمن منذ أقدم العصور كمهدٍ للتجارة والحضارة، وورد ذكره ضمنيًا في القرآن الكريم في سياق رحلة قريش، فكان موئلًا للقوافل ومحورًا في طرق التجارة بين الشمال والجنوب. من ممالك سبأ ومعين وحضرموت، إلى المرافئ التي صدّرت البخور واللبان، كان اليمن منارة اقتصادية وروحية، بناةً مخلصين، وحكماء يقودون رجالًا ونساءً.
لم يكن اليمن يومًا عبئًا على أحد، بل كان دائمًا مُصدرًا للجمال والمعرفة والعطر، من لبان البخور الذي عبق به تاريخ المعابد والقصور، إلى القهوة التي غزت العالم وأصبحت جزءًا من ثقافته اليومية. شكّل اليمن عبر العصور نقطة ارتكاز تجارية وفكرية، وكانت حضارته بوابة تواصل بين الشرق والغرب، والعرب والعالم.
للأسف ما زالت بعض النخب اليمنية تصر على تصدير اليمني ك ” كملف أمني” و”تهديد وجودي للجيران” دون ادراك لحقائق التاريخ، وخطورة هذا التوصيف، والحقيقة التاريخية على خلاف ما يُروج له، لم يكن اليمن عبر تاريخه مصدر تهديد لجيرانه، بل كان المتضرر الدائم من موجات الصراع القادمة من الشمال. لم تُسجل لحظة تاريخية واحدة كانت فيها اليمن نقطة انطلاق لعدوان على دول الخليج أو الجوار العربي، بل العكس هو الصحيح، إذ كان اليمن في أغلب مراحله التاريخية ضحية لمشاريع خارجية لا تعبّر عنه، ابتداءً من الأطماع الرومانية قبل التاريخ مع دولة سبأ مرورا بالغزاة الأوروبيين والمماليك وأخيرا إيران وأذنابها، لم يعرف اليمن الحروب التوسعية، ولا كان حاملًا لمشروع عدائي ضد جيرانه، بل ظل راسخًا في مسالمته، متمسكًا بدوره التاريخي كجسر حضاري لا كعبء أمني. هذه الحقيقة الغائبة عن كثير من القراءات السياسية المعاصرة ينبغي أن تكون منطلقًا لإعادة تعريف العلاقة معه، لا من منطق الشفقة، بل من زاوية الإدراك الاستراتيجي.
لكن هذا المسار المشرق انكسر حين حلّت على اليمن لعنة الهاشمية السياسية مع مجيء يحيى بن الحسين الرسي في القرن الثالث الهجري، الذي أرسى مشروعًا سلاليًا قائمًا على الحق الإلهي والتمييز الطبقي، فقوّض تقاليد الحكم التشاركي، وأعاد إنتاج الانقسام الاجتماعي على أسس نسبية لا وطنية. ومنذ ذلك الحين، دخل اليمن في دوامة من النزاعات والانقسامات، وبدأ يفقد دوره كفاعل حضاري واقتصادي، بعدما كان مركز إشعاع في محيطه العربي والإسلامي.
المشكلة في اليمن ليست في الجغرافيا، بل في أدوات الداخل. الفساد، ضعف الإدارة، غياب المشروع الوطني، والانقسامات المزمنة، كلّها عوامل جعلت اليمن يفشل في الاستفادة من إمكاناته. رغم امتلاكه لسواحل واسعة، لم ينجح في بناء اقتصاد بحري أو تجاري قوي. رغم ثروته البشرية، إلا في لحظات تاريخية عابرة، لم تُبنَ مؤسسات تستثمر طاقة الشباب أو تحوّلهم إلى قوى منتجة. رغم تاريخه العريق في بناء علاقات أفقية مع شرق أفريقيا وشرق آسيا، لم يستطع أن يستعيد هذا الدور في العصر الحديث.
ما يزيد من تعقيد العلاقة بين اليمن والخليج هو الإصرار المتكرر في الخطاب الإعلامي والسياسي – سواء من بعض النخب الخليجية أو اليمنية – على تصوير اليمن كدولة أقل قامة، وأكثر حاجة، في مقابل تقديم الخليج بوصفه “المنقذ” أو “الحل النهائي”. هذا الخطاب لا يخدم أحدًا، بل يكرّس تبعية نفسية وسياسية خطيرة، ويفتح المجال لظهور طبقة سياسية يمنية تعتاش على لغة “نحن نُمولكم” و”يجب أن تستوعبونا”. هذه ليست شراكة بل شحادة سياسية مُمأسسة. إن الاستمرار في تبني هذا النوع من اللغة لن يؤدي إلا إلى مزيد من الإهانة لليمن، وإلى نفور شعبي متزايد من الخليج، مهما حَسُنت النوايا أو زادت المساعدات.
لقد أثبت الواقع أن العلاقة غير المتكافئة بين اليمن والخليج ليست فقط غير مجدية، بل مسمومة. فهي تكشف يومًا بعد يوم عن نوايا إلحاق واختلال مريب في موازين التعامل، تُعرّي الخطاب السياسي من أي احترام فعلي لروابط التاريخ والجوار. مثل هذا المسار لا يُبقي مجالًا لعلاقة سوية، بل يدفع باتجاه صدامات ناعمة وخشنة، تخرج عن إطار السياسة إلى أزمة كرامة وهوية.
لفهم العلاقة الممكنة بين اليمن والخليج، يمكن النظر إلى تجارب تاريخية موازية. فمثلًا، بولندا كانت دائمًا ساحة صراع في أوروبا، لا لأنها أرادت ذلك، بل لأن جغرافيتها كانت مكشوفة وعديمة الحماية. موقعها بين قوى كبرى جعلها ممرًا للجيوش الغازية، من نابليون إلى هتلر، ثم فريسة سهلة للاتحاد السوفيتي. ما افتقدته بولندا هو المشروع الوطني القادر على تحويل موقعها من خطر دائم إلى فرصة إقليمية. وهذا بالضبط ما يجب أن يتجنبه اليمن.
في المقابل، تجربة إسبانيا والبرتغال تقدّم درسًا مختلفًا. كلا البلدين مرّا بفترات طويلة من الديكتاتورية والتراجع الاقتصادي، لكن أوروبا الغربية لم تتعامل معهما بوصفهما عبئًا، بل اعتبرتهما شريكين محتملين في منظومتها. فدُمجتا في الاتحاد الأوروبي، واستِثمر في بنيتهما التحتية والاقتصادية، حتى أصبحتا اليوم جزءًا مستقرًا من النظام الأوروبي. هكذا تتحول الدول الهشة إلى كيانات فاعلة عندما تُحتوى بشكل استراتيجي لا فوقي.
أما باكستان، التي واجهت أزمات سياسية وأمنية مزمنة، فقد أدركت الصين أهميتها الجغرافية، فحولتها إلى محطة أساسية في مشروع “الحزام والطريق”. لم تشترط الصين على باكستان أن تكون دولة مثالية، بل رأت في موقعها فرصة اقتصادية وجيوسياسية. فاستثمرت في موانئها وبنيتها التحتية وربطتها بشبكة مصالح عابرة للحدود. وهذا ما ينقص الخليج في تعاطيه مع اليمن: أن يرى فيه فرصة لا عبئًا.
إن العلاقة الندية والمحترمة هي وحدها التي تضمن مصالح الطرفين. فالجغرافيا، بحكم الضرورة، تحكم بأننا في خندق واحد، وليس على طرفي نقيض. لا يمكن لليمن أن يستقر دون الخليج، ولا يمكن للخليج أن ينعم بالهدوء دون يمن مستقر وفاعل. هذه ليست مجاملة بل منطق الجغرافيا والمصالح.
إن النظر إلى اليمن من زاوية اقتصادية وجيوسياسية يُعيد تعريف العلاقة على أسس واقعية وأكثر نضجًا. فاليمن ليس عبئًا ولا هامشًا جغرافيًا، بل فرصة استراتيجية لمن يُحسن قراءتها. موقعه يجعله بوابة طبيعية نحو إفريقيا وشرق آسيا، ويمنحه القدرة على أن يكون عقدة لوجستية وتجارية إقليمية تخدم الخليج والمنطقة بأكملها. في هذا السياق، يمكن للمال الخليجي أن يتحول من أداة نفوذ سياسي هش إلى استثمار طويل الأمد يعزز التكامل الإقليمي، ويخلق شراكات اقتصادية ومنافسة حقيقية. حين يُوظف المال لبناء ميناء، طريق، مصنع أو جامعة، فإنه يخلق روابط أعمق من أي خطاب سياسي أو دبلوماسي. هذه هي اللغة التي يجب أن تسود: لغة المصالح لا الإملاءات، لغة الشراكة لا الوصاية.
تحويل هذه الرؤية من تحليل إلى واقع يتطلب خطوات واضحة من الطرفين. على اليمن أولًا أن ينهض بذاته، لا انتظاراً للمنقذ، بل إدراكا لمسؤوليته التاريخية. وذلك البدء بصياغة مشروع وطني جامع يعيد ترتيب الأولويات من الصراع إلى التنمية، ومن الولاء إلى المصلحة. يجب أن تتحول بيئة الاستثمار إلى بيئة آمنة وقانونية وجاذبة، ويُعاد بناء المؤسسات على قاعدة الحوكمة لا المحسوبية. كما يجب أن يُستثمر الموقع الجغرافي بعقلانية، ويطلق مشروع لربط اليمن بالخليج وأفريقيا عبر موانئ ومناطق حرة وخطوط تجارة. ولعل الأهم من كل ذلك، هو تطوير خطاب سياسي وطني سيادي، يتخلى عن لغة “نحن بحاجة إليكم”، ويتبنى لغة “نحن مستعدون لنكون شركاء حقيقيين”.
من الخطأ أيضًا أن يُنظر إلى الهوية السياسية لليمن – بوصفه جمهورية ذات نظام تعددي – كعائق أو تهديد. بل على العكس، هذا التنوع السياسي إذا ما أُدير بوعي، يمكن أن يكون مصدر إثراء، لا مصدر فوضى. في كثير من دول العالم، من كوريا الجنوبية إلى الهند، التعددية لم تكن سببًا في الانقسام، بل ركيزة لبناء ديمقراطية قوية ومؤسسات مستقرة. اليمن لا يحتاج إلى إعادة تشكيل لهويته السياسية، بل إلى احترامها وتطويرها. التخوف من التعدد والتنوع هو ما يُعيق بناء شراكات إقليمية ناضجة.
بالمقابل، على الخليج أن يتخلى عن منطق التحكم أو الإحلال السياسي، ويرى في دعم اليمن مصلحة مباشرة، كما رأت أمريكا في إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ضرورة استراتيجية لضمان توازن عالمي جديد. المطلوب هو مراجعة عميقة لطبيعة العلاقة مع اليمن، والتخلي عن منطق المساعدات المشروطة أو التعامل مع اليمن كملف أمني فقط. يجب الاستثمار طويل الأمد في البنية التحتية والقطاعات الإنتاجية داخل اليمن، من الموانئ إلى الطاقة والزراعة والخدمات اللوجستية. كما أن على الخليج أن يفصل بين دعم الاستقرار وبين التدخل في الشأن السياسي، وأن يتعامل مع الدولة كمؤسسة، لا كأطراف أو وكلاء.
فتح أسواق العمل والتعليم والتدريب أمام اليمنيين – لا كمنّة بل كجزء من استراتيجية تكامل إقليمي – سيكون له تأثير عميق على الاستقرار في الجنوب والداخل الخليجي على السواء. فوق ذلك، على الخليج أن يمنح اليمن موقعًا فاعلًا في أي منظومة إقليمية قادمة، من مشاريع الربط الكهربائي إلى الأمن الغذائي والنقل البحري.
لكن كيف يمكن للمنطقة أن تتحول فعليًا من بؤرة اضطراب إلى نقطة جذب اقتصادي وتنموي؟ الجواب لا يكمن فقط في الأمن، بل في الاقتصاد كمحرّك للاستقرار. الأمن وحده لا يبني الدول، إنما يثبتها مؤقتًا. ما تحتاجه المنطقة هو إعادة تعريف ذاتها كمجال حيوي للاستثمار والإنتاج والنقل والربط الإقليمي. وهذا ليس تنظيرًا، بل تجربة أثبتتها دول أخرى. إسبانيا، مثلًا، تحولت بعد نهاية الديكتاتورية من دولة ضعيفة إلى اقتصاد جاذب، بفضل شراكة أوروبية استراتيجية استثمرت في بنيتها التحتية ومؤسساتها. كذلك فعلت الصين مع باكستان، حين رأت في موقعها الجغرافي المتوتر فرصة لخلق محور اقتصادي، فأنشأت مشروع الممر الاقتصادي الذي يربط بحر العرب بحدود الصين. باكستان لم تكن مثالية، لكنها كانت ممكنة. واليمن أيضًا ممكن، إذا ما وُجدت الإرادة والخطة.
لقد حان الوقت لإعادة التفكير في طبيعة العلاقات الإقليمية، في عالم لم يعد يتحرك وفق الولاءات التقليدية بل وفق خرائط المصالح المتغيرة. في زمن تتسابق فيه القوى البعيدة قبل القريبة على النفوذ، يصبح تجاهل ما يجري في البحر الأحمر وباب المندب نوعًا من العمى الاستراتيجي. هذه المنطقة، التي كانت هامشًا في الحسابات، أصبحت اليوم تعجّ بأساطيل الدول الكبرى من الشرق والغرب، وسط فراغ أمني حول الجغرافيا إلى عبء، والجماعات المتمردة إلى أدوات ضغط دولية. ما حدث ليس صدفة، بل نتيجة لغياب مشروع إقليمي قادر على تحويل الجغرافيا إلى قوة. في هذا السياق، يبرز الاقتصاد كأداة التوحيد الوحيدة القادرة على خلق مصالح حقيقية، تتجاوز الخطابات، وتُعيد تعريف العلاقة بين اليمن والخليج ضمن منظومة تعاونية تستوعب المتغيرات وتواجه التهديدات بشكل مشترك.
* من صفحة فيس بوك للمصدر أونلاين.