د. طه حسين الهمداني::
في لحظات الرحيل، لا تغيب الأسماء التي صنعت أثرها وخلّدت حضورها في ميادين المعرفة وساحات الكلمة، بل تزداد حضورًا كلما استعاد طلابها ومحبوها سيرتها، بوصفها جزءًا حيًّا من الذاكرة العلمية والوطنية، وإن غلب على أصحابها في حياتهم الصمتُ والهدوء.
برحيل الأستاذ الدكتور أحمد عمر بامشموس، أحد فرسان التعليم العالي والبحث العلمي على مدى عقود، تفقد جامعـتا صنعاء وحضرموت، ويفقد اليمن عمومًا، رمزًا أكاديميًا نادرًا، وقامةً علمية جمعت بين عمق المعرفة، ونزاهة الموقف، والإخلاص للمهنة والوطن.
كان الفقيد من روّاد التعليم العالي في اليمن، ومن أوائل مؤسسي جامعة صنعاء وكلية التجارة، ورئيس جامعة حضرموت الأسبق. كما أسهم بدور محوري في ترسيخ علم المحاسبة والمالية العامة كمجال أكاديمي ومنهجي، في مرحلة كانت فيها الدولة اليمنية الحديثة بأمسّ الحاجة إلى بناء كفاءات وطنية مؤهلة وقادرة على الإسهام في تأسيس مؤسساتها.
وعلى مدى عقود من العطاء، عمل أستاذًا جامعيًا ومعلّم أجيال، تاركًا بصمةً واضحة في تأهيل آلاف الطلاب الذين شغل كثيرٌ منهم لاحقًا مواقع مؤثرة في مؤسسات الدولة والقطاعين العام والخاص. ولم يقتصر عطاؤه على التدريس فحسب، بل كان من مؤسسي جمعية المحاسبين اليمنيين، مساهمًا في وضع اللبنات الأولى لتنظيم المهنة، وتعزيز أخلاقياتها، وربطها بالمعايير العلمية والمهنية.
كما كان للفقيد إسهام علمي رصين، تمثّل في تأليفه عددًا من الكتب والمراجع الجامعية في المحاسبة والمالية العامة، التي اعتُمدت لسنوات طويلة في تدريس طلاب أقسام المحاسبة، وأسهمت في توحيد المفاهيم وبناء قاعدة علمية متينة لهذا التخصص الحيوي.
وفي الجانب العملي والوطني، اختير الأستاذ الدكتور أحمد بامشموس نائبًا لرئيس الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، تقديرًا لخبرته وكفاءته ونزاهته، حيث أسهم – إلى جانب زملائه – في تطوير الجهاز وتعزيز بنائه المؤسسي، وكان مثالًا للمسؤول العام الذي يرى في الرقابة المالية أداةً لحماية الدولة، لا وسيلةً للمكايدة أو الاستهداف.
وقد عُرف الفقيد بموقفه الصارم من الفساد، إذ كان يرى فيه أخطرَ الأمراض التي تهدد الدول وتقوّض ثقة المجتمع بمؤسساته. وظل ثابتًا على هذا المبدأ، بعيدًا عن المجاملة أو التوظيف السياسي، ومؤمنًا إيمانًا راسخًا باليمن الواحد، وبأن بناء الدولة يبدأ من بناء الإنسان والمؤسسة.
ورغم المناصب التي شغلها، ظل زاهدًا في السلطة، لا يجد ذاته إلا في قاعة المحاضرات بين طلابه، حيث كان أكثر عطاءً وسعادةً وتأثيرًا، مقدّمًا نموذجًا نادرًا للأستاذ الجامعي الذي يجمع بين العلم والأخلاق والتواضع.
إن رحيل الأستاذ الدكتور أحمد عمر بامشموس يُعد خسارةً كبيرة، لا لأسرته ومحبيه وطلابه فحسب، بل للمشهد الأكاديمي والوطني اليمني بأسره. غير أن أثره سيظل حاضرًا في كتبه، وتلاميذه، والمؤسسات التي أسهم في بنائها، وفي القيم التي غرسها بعمله قبل قوله.
وبهذا المصاب الجلل، نتقدم بأحرّ التعازي وأصدق المواساة إلى أسرته الكريمة، وزملائه في هيئة التدريس ومساعديهم، وطلابه ومحبيه في جامعتي صنعاء وحضرموت، سائلين المولى عزّ وجلّ أن يتغمّده بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يجعل ما قدّمه في ميزان حسناته.
تسجيل الدخول
تسجيل الدخول
استعادة كلمة المرور الخاصة بك.
كلمة المرور سترسل إليك بالبريد الإلكتروني.
تعليقات