منبر حر لكل اليمنيين

قراءة سياسية…حزب المؤتمر الشعبي العام في حسابات الحوثي… تفكيك الخصم الداخلي وإدارة صراع البقاء

مصطفى المخلافي

مصطفى المخلافي::

منذ لحظة تشكلها كجماعة ميليشاوية، تعاملت ميليشيا الحوثي مع البيئة الداخلية بوصفها ساحة الصراع الحاسمة، حيث لا يقل التهديد الداخلي خطورة عن الخصوم الخارجيين، بل يتقدم عليهم في سلم الأولويات وضمن هذا الإدراك، حزب المؤتمر الشعبي العام الذي يحتل موقعاً خاصاً في حسابات الميليشيا، باعتباره الكتلة السياسية والتنظيمية الوحيدة القادرة بحكم امتدادها الاجتماعي وتاريخها في إدارة الدولة، على إعادة خلط الأوراق متى ما توافرت اللحظة المناسبة.

هذا التصور لم يكن وليد اللحظة، تشكل تدريجياً عبر تجربة الصراع نفسها، حيث خلصت الميليشيا إلى قناعة راسخة مفادها أن المؤتمر الشعبي العام يمثل الخطر البنيوي الأعمق على مشروعها، وليس مجرد خصم سياسي، فالحزب حتى وهو في مراحل ذروة الضغوطات عليه، يحتفظ بإمكانيات كامنة تتيح له التحول إلى مركز جذب وطني جامع، وهو ما يجعل استهدافه أولوية مستمرة في السلوك الحوثي.

في هذا الإطار يمكن قراءة التحركات الأخيرة للميليشيا تجاه الحزب باعتبارها امتداداً لاستراتيجية طويلة النفس، تقوم على تفكيك الخصم من الداخل بدل الدخول في مواجهة مباشرة قد تنتج ارتدادات غير محسوبة، فقد اتجهت الميليشيا إلى تعطيل مراكز القوة داخل الحزب، وتفريغه من قياداته الفاعلة، والعمل على إعادة تشكيل بنيته التنظيمية بما يخدم متطلبات السيطرة السياسية، إما عبر الاستقطاب القسري، أو عبر الإقصاء والاعتقال، أو من خلال قرارات تنظيمية تفتقر إلى الحد الأدنى من الشرعية.

 

ويأتي قرار فصل الأمين العام غازي الأحول، وهو في حالة اختطاف وتغييب قسري، كواحد من أبرز تجليات هذا النهج. فالقرار لا يمكن النظر إليه كإجراء تنظيمي داخلي، بقدر ما يجب فهمه كخطوة سياسية محسوبة تهدف إلى إعادة إنتاج قيادة بديلة داخل الحزب، تكون أكثر قابلية للتوظيف، وأقل قدرة على الاعتراض أو المبادرة، ومن خلال هذا المسار تسعى ميليشيا الحوثي إلى مصادرة القرار الحزبي وتحويل المؤتمر من كيان وطني مستقل إلى غطاء سياسي هش يخدم مشروع الأمر الواقع.

وتعول ميليشيا الحوثي في هذا السياق على شبكة من القيادات التي أظهرت استعداداً للتماهي مع متطلبات المرحلة المفروضة بالقوة، وسخرت مواقعها التنظيمية لتسهيل عملية الاختراق من الداخل أمثال حسين حازب، هذا الرهان يعكس قناعة لدى الميليشيا بأن السيطرة لا تتحقق عبر القوة المسلحة، إنما عبر تطويع البنى السياسية القائمة وإفراغها من مضمونها، بما يسمح باستخدامها كأدوات ضبط سياسي واجتماعي.

غير أن الدور الوظيفي الذي يمكن أن تؤديه هذه القيادات يظل محدوداً بطبيعته، وهو ما يفتح تساؤلات جدية حول الجدوى الاستراتيجية طويلة المدى لهذا الخيار، فالشخصيات التي تفقد شرعيتها داخل قواعدها الاجتماعية والحزبية تتحول سريعاً إلى عبء سياسي، وتصبح غير قادرة على إنتاج استقرار حقيقي أو تمثيل فعلي، ومع ذلك لا يبدو أن ميليشيا الحوثي تستبعد المضي قدماً نحو الاستيلاء الكامل على الحزب، إذا ما استمر غياب الفعل المضاد، وغياب مشروع وطني منظم يستعيد زمام المبادرة.

 

وعند العودة إلى السياق التاريخي، يتضح أن ما جرى منذ العام 2015م كان محطة مفصلية في مسار إعادة تشكيل السلطة في اليمن، فقد ترافقت العمليات العسكرية مع استهداف ممنهج لمؤسسات الدولة، ولمقرات المؤتمر الشعبي العام، وقياداته، ولمنزل الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح، في إطار عملية محسوبة هدفت إلى إزالة العائق الأكبر أمام مشروع الهيمنة السياسية، وقد أسهمت في هذه العملية عوامل متعددة، داخلية وخارجية، ساعدت بقصد في إضعاف الحزب، حتى من قبل أطراف أعلنت خصومتها للحوثيين.

وفي استعادة للذاكرة السياسية القريبة، يمكن التوقف عند مشهد العاصمة صنعاء في مطلع العام 2017 بوصفه لحظة كاشفة لطبيعة الصراع ومساراته غير المعلنة آنذاك، كان المشهد العام يوحي بأن الحرب الدائرة لا تسير في اتجاه كبح ميليشيا الحوثي، بقدر ما كانت تفتح لها الطريق سياسياً وعسكرياً، فأنماط القصف، ومجالات التدمير، وانتقائية الأهداف، أسهمت بصورة مباشرة في تفريغ الساحة الداخلية من القوى القادرة على موازنة نفوذ ميليشيا الحوثي.

في ذلك التوقيت، بدا واضحاً أن حزب المؤتمر الشعبي العام يُدفع تدريجياً نحو مربع الاستنزاف، وأن بنيته التنظيمية وقياداته تتعرض لضربات مركزة، بينما كانت الميليشيا الحوثية تستفيد من نتائج الحرب أكثر مما تتحمل كلفتها، ولم تكن الصواريخ تخطئ أهدافها حين يتعلق الأمر بمنازل قيادات المؤتمر ومراكزه، وهو ما عزز الانطباع بأن ثمة أهدافاً غير معلنة للحرب، تتجاوز خطابها المعلن، وتصب في نهاية المطاف في إعادة تشكيل ميزان القوى الداخلية لصالح الحوثي.

 

هذا السياق لا يمكن فصله عن إدراك الجماعة المبكر بأن إضعاف المؤتمر الشعبي العام يمثل المدخل الضروري للسيطرة الكاملة على العاصمة، ومن ثم على المجال السياسي برمته، فقد أسهمت تلك المرحلة في تمهيد الطريق أمام الحوثي ليقدم نفسه لاحقاً بوصفه القوة المنظمة الوحيدة القادرة على فرض الأمر الواقع، بعد أن جرى إنهاك الخصم الداخلي الأكثر خطورة عليه، تحت غطاء حرب لم تكن نتائجها النهائية بعيدة عن حسابات الهيمنة.

في المرحلة الراهنة، يعتقد خصوم المؤتمر الشعبي العام، أن الحزب بات في موقع الضعف البنيوي، وأنه يقترب من لحظة الانكفاء النهائي، ويراهنون على أن قرارات فصل وإقصاء غير قانونية قد تكون كافية لتقويضه من الداخل، غير أن هذا التقدير يغفل حقيقة أساسية تتعلق بطبيعة الحزب نفسه، فالمؤتمر الشعبي العام، في جوهره فكرة سياسية واجتماعية تشكلت عبر عقود، والفكرة بطبيعتها أكثر قابلية للتجدد تحت الضغط، وهذا ما يجب فهمه ولا يمكن القول غير هذا الأمر، خاصة وأن حزب المؤتمر الشعبي العام بات جزءاً أساسياً من حياة اليمنيين وتاريخ حافل بأحلام وتطلعات الملايين.

 

في الواقع كلما اشتدت الضغوط المفروضة على الحزب، تعزز إدراك ميليشيا الحوثي بأن بقاء المؤتمر متماسكاً يمثل تهديداً استراتيجياً مباشراً لمشروعها. فالحزب يمتلك خبرة في إدارة الدولة، وشبكات اجتماعية واسعة، ورصيداً بشرياً قادراً على إعادة إنتاج الفعل السياسي متى ما توافرت الظروف الموضوعية، وليس من قبيل المصادفة أن الانتفاضة التي اندلعت في ديسمبر حملت بصمات مؤتمرية واضحة في قيادتها وقاعدتها، قبل أن تُجهض بفعل اختلال موازين القوة وتخاذل الفاعلين الإقليميين والشرعية.

من هذا المنطلق لا يمكن قراءة سلوك ميليشيا الحوثي تجاه المؤتمر الشعبي العام خارج إطار إدارة الصراع الوجودي، فالميليشيا تنظر إلى الحزب باعتباره البديل الوطني المحتمل القادر في لحظة تحول على تفكيك مشروعها من الداخل، ولهذا السبب تحديداً سيظل المؤتمر الشعبي العام حاضراً في حسابات الحوثي بوصفه التهديد المؤجل الذي لا يمكن تجاهله مهما بلغت محاولات الاحتواء أو التفكيك.

تعليقات