د. طه حسين الهمداني::
برزت الدكتورة نادية الكوكباني بحضورٍ مميّز جمع بين العمارة والأدب والعمل المدني، فاستطاعت أن ترسم لنفسها فضاءً خاصًا يمزج بين العقل النقدي والخيال الإبداعي. لم تكن مجرد أستاذة في كلية الهندسة بجامعة صنعاء، ولا روائية تحصد الجوائز، بل شخصية أكاديمية وثقافية متكاملة تركت بصمتها في كل الحقول التي دخلتها، وحوّلت حضورها إلى مشروع معرفي وإنساني متماسك.
تخرّجت الدكتورة نادية في كلية الهندسة – قسم العمارة من جمهورية مصر العربية، ثم التحقت بجامعة صنعاء لتصبح واحدة من أبرز الكفاءات الأكاديمية في اختصاصها. ومثلما يتعامل المعماري بحسّه الفني مع «الفراغ» و«الكتلة» و«روح المكان»، حملت الكوكباني هذا العمق إلى قاعات التدريس، فكانت أستاذة مُلهِمة تتلمذ على يديها أجيال من الطلاب، وجدوا فيها نموذجًا للجدّية والانضباط، وللمعرفة التي لا تنفصل عن الإنسان وحاجاته وأسئلته.
ولأن العمارة ليست مجرد مهنة، بل رؤية شاملة للعالم، انعكس هذا الحس بوضوح في أعمالها الروائية التي تعاملت مع المكان بوصفه ذاكرة حيّة. ويتجلّى ذلك بصورة لافتة في روايتها «صنعائي» التي منحت المدينة وجهًا سرديًا نابضًا بالحياة، وجعلتها كائنًا حيًا يتنفس، ويتكلم، ويختزن تاريخًا مثقلًا بالتحولات.
دخلت الكوكباني عالم الأدب من بوابة القصة القصيرة، قبل أن تتجه إلى الرواية التي أصبحت ميدان حضورها الأبرز. ومن أهم أعمالها:
* حبّ ليس إلا (2006)
* عقيلات (2009)
* صنعائي (2013)
* سوق علي محسن
* (2016)
* هذه ليست حكاية عبده سعيد (2024)، التي وصلت إلى قائمة الـ18 في جائزة كتارا للرواية التاريخية.
تميّزت كتابتها بلغة رصينة، وحسّ إنساني عميق، وقدرة عالية على التقاط التحولات الاجتماعية والسياسية في اليمن، من خلال سرد يتتبع مصائر الأفراد ليكشف، من خلفها، صورة وطن كامل. وتمثّل روايتها الأخيرة نقلة نوعية في تجربتها الإبداعية، إذ قدّمت سردية يمنية جديدة تستعيد الذاكرة وتوثّق اللحظة التاريخية دون أن تفقد بعدها الجمالي والإنساني.
وبعيدًا عن الجامعة والرواية، كان حضور الكوكباني فاعلًا في منظمات المجتمع المدني، حيث انخرطت في برامج متعددة هدفت إلى تعزيز ثقافة الحوار وتقريب وجهات النظر بين القوى السياسية. وخلال عملها في منتدى التنمية السياسية، برزت كأحد الوجوه النسائية القادرة على إدارة جلسات الحوار بثقة عالية، وحكمة، وقدرة لافتة على جمع أطراف متباعدة في الرؤى والمواقف.
وقد أثبتت عبر هذا المسار أن المرأة اليمنية المؤهلة قادرة على قيادة أصعب الملفات وأكثرها حساسية وتعقيدًا. كما مثّلت المرأة اليمنية في مؤتمر الحوار الوطني، وأسهمت بفاعلية في بلورة رؤى تتصل بقضايا الدولة، والحقوق، والمواطنة، وكانت تجربتها هناك امتدادًا لإيمانها العميق بالديمقراطية واحترام التعدد والاختلاف.
تعرفها الأجيال الجديدة بوصفها أكاديمية وكاتبة وناشطة، لكن من عرفها في بداياتها يدرك قبل ذلك عمقها الإنساني ووفاءها لعلاقاتها. فهي من «جيل الثورة»، ومن أكثر المؤمنات بأن التغيير ممكن، وأن اليمن يستحق وطنًا آمنًا ومستقرًا يعيش فيه أبناؤه بحرية وعدالة ومواطنة متساوية. وعلى الرغم من اختلاف المواقف السياسية أحيانًا، ظلّت تحترم الرأي الآخر، ولا تجعل من الاختلاف حاجزًا أو سببًا للفرقة.
إن ما يميّز الدكتورة نادية الكوكباني ليس فقط تعدد حقول اشتغالها، بل وحدتها الداخلية؛ فهي في العمارة تشيّد المكان، وفي الأدب تبني الذاكرة، وفي المجتمع المدني تمدّ الجسور، وفي العمل النسوي تُشعِل الأمل.
امرأة تركت بصمتها في مشهد ثقافي وأكاديمي مرّ بظروف قاسية، لكنها حافظت على حضورها وإبداعها وإيمانها بأن المعرفة قادرة على إحداث التغيير المنشود، وأن الجمال يظل أحد أشكال المقاومة الهادئة.
وليس الهدف من هذا المقال سردًا تاريخيًا لمسيرة حافلة بالإنجازات، بقدر ما هو تحية لامرأة نادرة جمعت بين العلم والإبداع والالتزام الوطني، وظلّت مثل الضياء في محيطٍ معتم، وصوتًا صادقًا يعبّر عن ضمير اليمن وروحه الجميلة.
ويأتي فوزها الأخير بـ جائزة الأديب العالمي نجيب محفوظ تتويجًا عربيًا رفيعًا لمسيرة إبداعية واعية، ولحضور روائي عميق عبّر بصدق وجمال عن الإنسان وأسئلته، وأكّد قدرة الرواية اليمنية على المنافسة والتألق في المشهد العربي.
مبارك لكِ هذا الإنجاز المستحق، ومزيدًا من النجاح والعطاء، ومن الروايات التي تفتح أبوابًا جديدة من شعاع الأمل على اليمن، وتصنع للذاكرة منفذًا دائمًا للضوء.