منبر حر لكل اليمنيين

ديسمبر.. الطلقة الأخيرة في صدر الإمامة ووجه الظلام

يمن المستقبل/ خاص/ محمد عبده الشجاع

سَلمتْ يد البَاني شهيد القادسية.. من شيَّد الأرض اليباب وصافحتْ كفَّاه نار الثورجية.. سلمت يداك أبا اليتاما مُلهم الشُّعراء قدَّاح النِّضال وعرَّاب السياسة آخر طلقة في البندقية.. سلمت رؤاك ابن هذي الأرض يا روح سنحان الأبية.

في مثل هذا اليوم مطلع شهر ديسمبر من العام 2017م، شهدت صنعاء أهم انتفاضة قادها الزعيم علي عبدالله صالح ضد فلول الإمامة التي انقلبت على مفاهيم الحياة ومصطلحات السياسة وثوابت الأمة والعقود الاجتماعية والديمقراطية والقوانين ودستور الجمهورية اليمنية، بعد أن اجتاحت المدن والعاصمة صنعاء مجاميع حوثية انتهزت أجواء الحرية وفرص التعايش السلمية، لتقوم بعملية التفاف دنيئة على مؤسسات الدولة وأركانها الفتية، قبل أن تخضعها لمزاجها الموتور وفكرها المأزوم وسلطتها القائمة على الولاء والبراء لمراهق يدعي أنه علمٌ من سلالة الأنبياء.

جاء الثاني من ديسمبر ومن قلب أقدم مدن الدنيا صنعاء، ليكون اختبارًا تأريخيًأ لإعلاء كلمة الحق ورفع راية الديموقراطية والصدح بصوت الفكرة والجمهورية، واعادة الاعتبار لروح الثورة السبتمبرية والاكتوبرية، حدث أصبح محط أنظار العالم لصلابة رجاله ونضوج قاماته وصدق شهدائه ووفاء جنوده، جاء ليكون استثناء في توقيته وسياقاته ودوافعه وناموسه، تجدده الأيام والوقائع والسنين، وتهتدي من خلاله أفلاك الأحرار وأسراب الطيور الراغبة بحياة الحرية، جاء ليصبح فلسفة تحضر كلما دوى صوت الجهل، ومنهجٌ كلما خيم ظلام الكهنوت وهتافٌ في وجه الأبواق النشاز وبشارات خير تطوي صفحات الخيبة وزوامل القصيد المتناقضة، ونشيدٌ وطني خالد.

كان صالح قد بذل كل ما بوسعه لإخماد نيران الفتنة، من منطلقات قيمية وأعراف عريقة وسلوك سوي، ضحى ببعض رجاله وأقربائه وأعز رفاقه خشية أن تنزلق البلاد، إلا أن أياد خارجية وداخلية كانت قد نسجت خيوط اللعبة، أججت المشهد، ورتبت لأدوات برزت في غفلة من النخب السياسية وصراعاتها المجانية؛ كقوى متحررة بلباس جمهوري وفكر فارسي دخيل على المجتمع، استقدمت الخبراء من إيران وحزب الله لتدريب الأفراد وتأهيلهم على ارتكاب الجريمة وتسويق مشاريعها العقائدية والطائفية، تبعتها صفقات السلاح التي وصلت عبر البر والبحر والجو بتواطؤ من جهات عديدة ودول شقيقة وصديقة وعصابات تهريب همجية.

لم تكن اليمن بخير، حاول صالح أن يعيد البوصلة إلى عملها الطبيعي ويرسم ملامح مشهد جديد بعيدًا عن الأطراف الاقليمية والدولية كما عهده الناس وعرفته الحنكة السياسية، لكن الوقت كان قد فات، والجميع اوغل في التحريض وانغمس في العمالة والارتزاق من أصحاب المشاريع الحديثة والدعوات البراقة، لتصبح اليمن قطعة لحم تتخطفها الضواري وتنهشها الضباع وتلوكها وسائل الاعلام، كبرت المؤامرة وصارت سكينا يذبح في الجغرافيا وفكرا خبيثا يعبث بالعقول ويدجن النشء والشباب عبر مسارات التعبئة التي تقف خلفها أدوات وخبراء وآلة هدم هائلة وضخمة وأموال طائلة سالت لها لعاب المنتفعين وتقبلتها حسابات المأزومين.

وعلى طريقة الحرس الثوري وحزب الله في خلق دولة داخل الدولة في لبنان والعراق وسوريا فعلوا كذلك باليمن، صدروا السفراء واستقدموا الخبراء وروضوا العقول كما تروض الشاة والابل، فعلوا كل ذلك خارج الرغبة السياسية والاجماع العربي على فرقته، قبل أن يصدروا مراسيم التكفير في حق الآخرين وتهم العمالة والارتزاق والخيانة والبدء بعمليات الاعتقالات واصدار أحكام الاعدام على أوسع نطاق وتشتيت جهود عملية السلام للظفر بأكبر قدر من الوقت ليتسنى لهم تلغيم الأرض بالمتفجرات والعقول بالأفكار والرؤى الغير قابلة للحياة.

حاول صالح جاهدًا أن يجد مكانا للسلام، وبقعة متينة للحوار وأروقة تسمح للديبلوماسية بالعمل لكنهم رفضوا هذا الخيار، كانوا قد أعدوا العدة ونسجوا الخطة، وباشروا العمل والعمالة، أخذوا الضوء الأخضر من الضاحية، مستأنسين بتفكك القوى الداخلية وتشرذمها، مبتهجين بما قام به التحالف العربي من قصف لمقدرات لا تعنيهم ومنشآت تكشف عجزهم، وبيوت يملكها خصومهم، وأرواح ترفع من رصيدهم، تركوهم يُكملون مشروعهم كما لو أن هناك من يوزع الأدوار وينفخ في كير الفتنة ويفتح المجال لمزيد من الدم والقتل والانتقاص من السيادة واثخان الجراح بالتهجير والشتات، ويصر على قتل علي عبدالله صالح الذي كان جزء من الجمهورية والشورى والديمقراطية، جزء من هذه الأرض والناس بمختلف مشاربهم، كل ذلك من أجل أن تخلو الأجواء وتنطفئ الأضواء وتموت جذوة الأمل وتَفنى فكرة العودة للدفاع عن الأرض والانسان.

واجه الرجل بما اتصف من شجاعة وامتلك من اباء وشموخ ورجال، كل الفلول والمجاميع المسلحة العقائدية والطائفية والتكفيرية التي تربت على الحقد وملازم الضغينة ومحاضرات البغضاء ودورات الاستعلاء على الآخر وفقه الولاء والبراء ولغة الشحن، امتلكت ما يكفي لتفعل كل ما يحلو لها، تقاطرت المجاميع كالضباع من كل حدب وصوب في يوم مشهود، محملة بغبار التاريخ وعقده، وروايات الخرافة وخزعبلات السلالة وعرق الاصطفاء، لترفع راية النصر بعد ارتقاء روح الرئيس الشهيد، استعرضت جسدًا غائر الجرح مضرجا بدمائه، ليكتب جثمانه آخر الفصول مؤكدا على رفضه فكرة الخروج من البلاد، ثابتا كالجبال على أرضه بين ناسه وأهله ممن كان معهم وبهم ولهم.

سقط الرجل بعد مقاومة شرسة ليؤسس فكرة النضال لجيل كامل من اليمنيين، كاشفا كل أوراق المليشيا وأهدافها التي تسعى من خلالها لابتلاع الأرض والانسان والمقدرات، وتحول البلد إلى بوابة للعبث الايراني وباقي طغاة الأرض، عملًا بالمقولة الشهيرة: “الطغاة يجلبون الغزاة”، وقد طبقوها بحذافيرها حيث جَلبت بمشروعها الهزيل كل الموبقات وأصناف الكوارث والأوبئة والأمراض وشرعنوا للقتل والارهاب وتوريد المخدرات، وفتحوا الأبواب أمام السوق السوداء التي انهكت المواطن واستنزفت مدخراته ووظيفته وراتبه وصادرت حريته وكرامته.

شاعت الروايات حول مقتل صالح أين؟ وكيف؟ ومتى؟ ولماذا؟، لكن السؤال الأهم قبل وبعد!. هل يعتقد القتلة أن التاريخ ينسى وأن الناس ستفقد الذاكرة، حتما لا لأن الثابت أن الرجل قاتل وحيدا إلا من فئة قليلة رافضا كل المغريات وعمليات الهروب وكافة التدابير والترتيبات للخروج آمنا؛ من عاصمة الروح، عاصمة التاريخ، بوابة الناس والبلاد، عاصمة الثقافة والأدب، والسياسة والديمقراطية والحضارة، مدينة غمدان وعطان ونقم وعيبان وخولان ومذحج وحمير وسنحان، عاصمة الزمان والمكان والإنسان الأول والطلقة الأخيرة في صدر الإمامة وجه الظلام.

 

تعليقات