اليمن اليوم يقف عند مفترق طرق تاريخي، تحيط به الأزمات من كل جانب، وتثقل كاهل شعبه معاناة لا تخفى على أحد.. فمنذ سنوات، يعيش المواطن اليمني تحت وطأة الفقر المتفاقم، وانهيار الخدمات الأساسية، وتراجع مؤسسات الدولة، وتفشي البطالة، وتدهور التعليم والصحة، فضلاً عن النزوح والشتات الذي مزق الأسر وشتت المجتمعات.. هذه المعاناة ليست أرقام في تقارير دولية فحسب، بل هي واقع يومي يعيشه الملايين، يختبرون فيه معنى الصمود والصبر والجَلَد في وجه العواصف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لم تهدأ منذ عقد ونصف
إن الدولة لا تقوم على الشعارات ولا على الولاءات الضيقة، بل على أسس راسخة من الحكم الرشيد، والعدالة، وسيادة القانون، والمواطنة المتساوية.. الدولة الحقيقية هي التي تجعل من مؤسساتها مظلة جامعة، ومن دستورها عقداً اجتماعياً يضمن الحقوق ويكفل الواجبات، ومن اقتصادها رافعة للكرامة الإنسانية لا أداة للهيمنة والفساد.. هي الدولة التي توازن بين الحرية والنظام، بين الهوية الوطنية والانفتاح على العالم، بين متطلبات الأمن وحاجات التنمية.
قبل عام 2011م ورغم ما كان يعتري اليمن من تحديات، ظل هناك قدر كبير من الاستقرار النسبي، ومؤسسات قائمة، ووحدة وطنية تشكلت وترسخت رغم الصعوبات.. لكن ما تلا ذلك العام المشؤوم حمل معه انكسارات عميقة، إذ تحولت الخلافات السياسية إلى صراعات مسلحة، وتراجعت سلطة الدولة أمام سطوة الميليشيات المتلونة، وتفتت النسيج الاجتماعي تحت ضغط الطائفية والمناطقية؛ صار اليمن ساحة مفتوحة للتجاذبات الإقليمية والدولية، وفقد المواطن البسيط شعوره بالأمان والقدرة على رسم مستقبل واضح لأبنائه
الوحدة الوطنية صمام الأمان لأي بلد، خصوصاً في مجتمع متعدد مثل اليمن؛ لأن التماسك المجتمعي يخلق قوة مضاعفة، ويمنح الدولة القدرة على مواجهة التحديات، بينما التفرق والشتات يفتحان الباب أمام التدخلات الخارجية، ويجعلان من كل خلاف داخلي مدخلاً لتفكيك الكيان الوطني.. السلام والتنمية هما جناحا النهضة، إذ لا يمكن لاقتصاد أن يزدهر في ظل الحرب، ولا يمكن لمجتمع أن يتقدم في ظل التطرف والغلو والطائفية.. الحرب تلتهم الموارد وتزرع الكراهية، بينما السلام يفتح أبواب الاستثمار، ويعيد الثقة بين المواطن والدولة، ويمنح الأجيال القادمة فرصة للحياة الكريمة.
من هنا، تبرز الحاجة إلى مبادرة وطنية شاملة لتصحيح الأخطاء ومعالجة الظواهر السلبية؛ مبادرة تقوم على الاعتراف أولاً بجذور الأزمة، ثم بناء مشروع وطني جامع يتجاوز الحسابات الضيقة.. يجب أن ترتكز على أسس علمية واضحة تتمثل بإعادة بناء مؤسسات الدولة على قاعدة الكفاءة والشفافية، وإطلاق مشروع مصالحة وطنية يعيد اللحمة بين المكونات، والاستثمار الشامل في التعليم باعتباره حجر الزاوية لأي نهضة، وتبني سياسات اقتصادية تعيد توزيع الثروة بعدالة وتفتح المجال أمام الشباب للإبداع والإنتاج.. كما ينبغي أن تترافق مع إصلاح الخطاب الديني والإعلامي، بما يعزز قيم التسامح والاعتدال، ويحصن المجتمع ضد التطرف؛ والتوجه نحو العمل الديمقراطي وتفعيل الانتخابات لاختيار كافة السلطات بقناعة تامة بما ستؤول إليه مع الالتزام التام بالدستور والقانون المتعارف عليه من عام ٩٠ لغاية أن تقوم المؤسسات الرسمية المنتخبة بالتعديل عليه أو الإضافة فيه مع الاستفتاء الشعبي.
اليمن قادر على النهوض من جديد إذا ما توفرت الإرادة السياسية الصادقة، والرؤية الاستراتيجية الواضحة، والالتفاف الشعبي حول مشروع جامع.. فالتاريخ يعلمنا أن الشعوب التي تتماسك أمام المحن قادرة على تحويل الألم إلى قوة، والهزيمة إلى فرصة، والشتات إلى وحدة.. اليمن بتاريخ حضارته العريق ليس استثناءً من هذه القاعدة، بل هو مدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى أن يستعيد مكانته، ويشق طريقه نحو بر الأمان.
كلنا مطالبون بأن نكون على مستوى المسؤولية التاريخية؛ مسؤولية الحفاظ على مكاسب الثورة والوحدة، مسؤولية الدفاع عن الوطن ضد كل من يتربص به من الداخل والخارج، مسؤولية البناء والتعمير، ومواصلة السير نحو تحقيق الرفاهية والتنمية للشعب اليمني الكريم.. إن التحديات كبيرة، والعقبات مع كونها كأداء فهي شائكة، ولكن إرادة الشعب التي استطاعت أن تهزم الاستعمار وأن تطيح بالاستبداد، قادرة بإذن الله على تجاوز كل الصعاب وتحقيق المُنى والآمال.