منبر حر لكل اليمنيين

إيران تواصل تسليح الحوثيين رغم دعوات السلام الحكومية

أ.د. عبدالوهاب العوج

الأحداث الأخيرة في المشهد السياسي والأمني في اليمن كشفت عن تطور مهم تمثل في البيان الرسمي الصادر عن وزارة الدفاع اليمنية التابعة للحكومة المعترف بها دولياً، والذي جددت فيه الدعوة لعناصر المليشيا الحوثية إلى ترك السلاح والانخراط في مسيرة السلام والبناء وأن “الوطن يتسع للجميع “شريطة الامتثال للقرارات الدولية واهمها القرار 2216 و انهاء الانقلاب وتسليم السلاح من قبل الميليشيات الحوثية، مؤكداً أن السلام يظل الخيار الاستراتيجي الوحيد لإنهاء معاناة الشعب اليمني التي طالت بسبب الحرب والانقلاب الحوثي على الدولة والشرعية.

دعوة وزارة الدفاع هذه تأتي في سياق الجهود المتكررة التي تبذلها الحكومة اليمنية لتأكيد أن السلام هو الطريق الوحيد لاستعادة الدولة ومؤسساتها، وأن اليمن يمكن أن يحتضن أبناءه جميعاً إذا تخلوا عن منطق السلاح، وانحازوا إلى منطق الدولة والقانون. غير أن هذه الدعوة، بما تحمله من نية صادقة وموقف أخلاقي، تصطدم بواقع ميداني مغاير تحكمه حسابات إقليمية ومشاريع خارجية، في مقدمتها المشروع الإيراني الذي يواصل تغذية الحرب وتسليح المليشيات الحوثية رغم كل الدعوات الدولية للتهدئة.

التقارير العسكرية والأمنية تؤكد أن شحنات السلاح الإيراني لا تزال تتدفق باتجاه اليمن عبر طرق بحرية متعددة، وقد ضبطت القوات اليمنية والتحالف العربي خلال الشهور الأخيرة سفناً وقوارب في المهرة وعدن ورأس العارة وسواحل البحر الأحمر محملة بصواريخ وطائرات مسيرة وذخائر حرارية وأجهزة اتصالات عسكرية متطورة، وتشير الأدلة الفنية إلى أن هذه الأسلحة تحمل دلالات الصناعة الإيرانية بوضوح، سواء في التصميم أو الرقم التسلسلي أو مصدر التوريد، ما يثبت أن الحرس الثوري الإيراني هو الجهة الممولة والمشرفة على هذه العمليات، في خرق صريح لقرارات مجلس الأمن التي تحظر تزويد الحوثيين بالسلاح.

هذه الوقائع الميدانية تكشف أن إيران تنظر إلى الحوثيين كجزء من منظومتها الإقليمية المرتبطة بما تسميه “محور المقاومة”، وهو ذات المفهوم الذي أسسته في لبنان عبر حزب الله، وفي سوريا عبر المليشيات الرديفة التي تقاتل إلى جانب النظام، فكما صنع حزب الله دولة داخل الدولة في لبنان، تعمل طهران على تمكين الحوثيين من بناء كيان موازٍ للشرعية في صنعاء، يملك سلاحه وتمويله وقراره السياسي المستقل عن الدولة اليمنية، في تكرار متطابق تقريباً للنموذج اللبناني والسوري معاً.

التمويل الموازي الذي تعتمد عليه المليشيا الحوثية لا يأتي من الدعم العسكري فحسب، بل من اقتصاد الحرب الذي يتشكل حول تجارة المخدرات، وخاصة حبوب الكبتاغون القادمة من معامل مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، فقد ضبطت الأجهزة الأمنية اليمنية شحنات ضخمة من هذه المواد في مناطق الساحل الغربي ومحافظتي المهرة وعدن، وجرى توثيق عمليات تهريب استخدمت فيها ممرات بحرية مشتركة لتهريب السلاح والمخدرات معاً، هذه التجارة السوداء تمثل أحد أهم مصادر التمويل الذاتي للمليشيا، وتعيد إلى الأذهان تجربة حزب الله في لبنان الذي استخدم تجارة المخدرات عبر سوريا لتمويل عملياته العسكرية والاقتصادية، وكذلك شبكات النظام السوري التي جعلت الكبتاغون أداة رئيسية في تمويل الحرب وبسط النفوذ.

من منظور جيوسياسي، أصبح اليمن محوراً حساساً في معادلة الأمن الإقليمي، فالموقع الجغرافي المطل على البحر الأحمر وخليج عدن يمنح المليشيا الحوثية المدعومة من إيران موقعاً استراتيجياً يتيح لها تهديد خطوط الملاحة الدولية والتحكم النسبي في أحد أهم الممرات المائية في العالم، وهو مضيق باب المندب الذي يربط بين آسيا وأوروبا، ومع تصاعد الهجمات الحوثية على السفن التجارية وناقلات النفط، بات البحر الأحمر منطقة توتر مفتوحة تشبه إلى حد كبير ما يحدث في شرق المتوسط حيث تتقاطع المصالح الإقليمية والدولية.

هذه التحركات البحرية لم تعد مجرد تهديد تكتيكي، بل أصبحت جزءاً من استراتيجية الردع الإيرانية، فإيران تستخدم الحوثيين كورقة ضغط ضد الولايات المتحدة والغرب، وتختبر من خلالهم ردود الأفعال الدولية في بيئة بحرية حساسة. وبهذا، تحولت السواحل اليمنية إلى امتداد طبيعي لحزام النفوذ الإيراني الممتد من الخليج العربي إلى شرق المتوسط، بما في ذلك القواعد البحرية التابعة للحرس الثوري على السواحل السورية واللبنانية وخاصة مع فقدان ايران لسوريا بعد سقوط نظام الأسد.

ورغم أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يعلنان باستمرار التزامهما بأمن الملاحة في البحر الأحمر، فإن الموقف الدولي ما زال متراخياً تجاه مصادر التهريب الإيرانية، فالدوريات الغربية تركز على حماية السفن التابعة لها أكثر من وقف مسارات الإمداد، بينما تبقى عمليات التهريب مستمرة تحت غطاء سفن الصيد والمساعدات، و هذا التردد في التعامل مع السلوك الإيراني يعكس ازدواجية الموقف الغربي، الذي يدين علناً تهريب السلاح لكنه يتجنب مواجهة مباشرة مع طهران خشية التصعيد في ملفات أخرى كالاتفاق النووي والطاقة.

في المقابل، تجد الحكومة اليمنية نفسها في مواجهة مفتوحة مع مشروع يتجاوز حدودها الجغرافية، فهي تقاتل جماعة تمتلك تسليحاً متطوراً وتمويلاً موازياً ودعماً استخبارياً من قوة إقليمية ذات أجندة توسعية. ولهذا تبدو دعوات وزارة الدفاع اليمنية للسلام رغم صدقها الأخلاقي والسياسي غير كافية ما لم تُدعم بموقف دولي موحد، يفرض على إيران وقف تهريب السلاح والمخدرات، ويمنع المليشيا من تحويل اليمن إلى قاعدة دائمة لتهديد الأمن الإقليمي والدولي.

المجتمع الدولي مدعو اليوم لتجاوز البيانات الإنشائية نحو آلية رقابة حقيقية على الممرات البحرية، وتفعيل العقوبات على الجهات الإيرانية المشاركة في التهريب، ودعم قدرات الدولة اليمنية في ضبط سواحلها وموانئها. فاستقرار اليمن لن يتحقق بمجرد وقف إطلاق النار، بل بتفكيك البنية المالية والعسكرية للمليشيات التي جعلت من الحرب مشروعاً طويل الأمد.

اليمن اليوم في قلب صراع جيوسياسي واسع، بين مشروع وطني يسعى لاستعادة الدولة ومشروع خارجي يسعى لاستخدامه كورقة في معركة النفوذ الإقليمي. السلام الذي دعت إليه وزارة الدفاع اليمنية يمثل أملاً حقيقياً، لكنه يحتاج إلى قوة دولية تترجم الأقوال إلى أفعال، وتضع حداً لمعادلة السلاح الإيرانية التي جعلت من اليمن نسخة مكررة من تجارب لبنان وسوريا وخاصة بعد سقوط نظام الأسد، حيث يتحول الوطن إلى ساحة نفوذ لا إلى دولة ذات سيادة.

أكاديمي ومحلل سياسي يمني
جامعة تعز

تعليقات