لم يكن مساء العشرين من أكتوبر 2018 مساءاً عادياً.
كان مساءاً مكسوراً، مبهماً، يحمل في طياته نبوءة غامضة لم أفهمها إلا حين فُتح باب الجحيم.
كنتُ في مقر عملي، محمّلاً بعادية الأيام، لا أعرف أنني أنتظر آخر خُطوة من حريتي.
خمس دقائق فقط، كانت كافية ليتغيّر كل شيء.
صوت سيارة تتوقف فجأة، رجال ملثمون بملابس مدنية وبملامحٍ لا تعرف الرحمة، أيادٍ غليظة تمتد إلى كتفي، سلاح مصوب على رأسي، وصوت يأمرني أن أقف مكاني ولا اتحرك.
لم أصرخ.
لم أقاوم. كان الخوف أسرع من أن يُترجم إلى ردّة فعل.
في لحظة، صرت رقماً في دفاترهم، جثة مؤجلة لموعد مجهول.
شدّوا العصابة على عينيّ حتى التصقت بالجفون، وبدأت الرحلة التي لم تنتهِ إلى الآن.
كنت أسمع محرك السيارة يصرخ، والحديد في يديّ يجرح جلدي.
لم أكن أعلم إلى أين يأخذوني، فقط كنت أردد في داخلي: “اللهم سلّم، اللهم سلّم” بصوت مرتعش كمن يخاطب الموت مباشرة.
حين نزعوا العصابة عن عيوني، كنت في مكان يشبه المقبرة — رطوبة خانقة، كأنها مصنوعة بوجع و قهر من سبقوني لهذا المكان.
قال أحدهم ببرود: “مرحباً بك ضيفاً في المدافن.”
ضحك الآخرون بنشوه وأنا فهمت فوراً: المدافن ليس اسماً مجازياً عابراً … إنه وصف دقيق لما ينتظرني.
رائحة العفن تختلط بالدم الجدران مشبعة بأنين قديم لا يموت لمن عبروا.
وجوه السجناء تائهة، أعينهم فارغة كأنها نوافذ مفتوحة على الجحيم.
أحدهم يهمس: لا تتكلم كثيراً، هنا الصوت يُكلفك كرامتك.
ومنذ تلك اللحظة، صرت أتعلم لغة الصمت.
منذ الساعة الأولى، جروني إلى التحقيق.
قيدوني للخلف عصبوا عينيّ اجلسوني على كرسي مثبت بالارض، اسمع همسهم فقط
فجأة صوت المحقق أجشّ كأنه يخرج من بئر عميق: قل لي، لمن تعمل؟ من يمولك؟
قلتُ بهدوء مرتعش: “لماذا انا هنا .”
قال المحقق ببرود ماكر:
احترم نفسك واتحاكا مثل الناس… أنت في أمن الدولة، إحنا اللي نسأل مش أنت.
قلت له “انا صحفي”
حينها سمعت الجملة التي غيرت كل شيء:
“أنت صحفي… والصحفي أخطر من المقاتل. أنتم تحاربوننا بالكلمة، ونحن نحاربكم بالألم.”
تخيلت على وجهه ابتسامة مريضة ثم قال: “أخطر من مقاتل. الكلمة أشدّ من الرصاص.”
ثم صفعني على وجهي.
كانت أول صفعة، لكنها لم تكن الأخيرة.
من بعدها، صار الألم لغة الحوار الوحيدة في كل جلسة تحقيق.
فتشوا هاتفي. قرأوا كل رسالة، كل ملاحظةٍ كتبتها لنفسي.
حتى كلمة “أمي” في سجل الاتصالات نظروا إليها بريبة كأنها اسم منظمة سرّية.
لم يجدوا شيئاً.
لكنهم لا يحتاجون دليلاً، لأن التهمة جاهزة: تفكيرك يهددنا.
في اليوم الثالث بعد نقلي الى صنعاء، بدأ الجحيم الحقيقي.
قيدوني إلى عمود حديدي، عروني من كرامتي قبل ثيابي.
تلك الليلة صعقوني فيها بالكهرباء حتى فقدت النطق، ثم رشوني بماءٍ بارد في برد صنعاء القارس، وتركوني معلقاً في السقف سبع ساعات.
لساني كان يرفض أن يقول حتى “يا الله” من شدة الوجع والتعب.
وضع أحدهم المسدس على رأسي وعدَّ حتى ثلاثة،
تمنيت أن يضغط الزناد… فقط لينتهي كل شي.
كنت كلما صرخت، ضحكوا أكثر.
قال أحدهم وهو يضغط زر صعق الكهرباء أسمعت، هذا صوت الحرية التي تدعيها.
ضحكوا، وأنا بكيت بلا صوت.
مرّ عام كامل من الاختفاء القسري.
عام من الموت البطيء.
لم يعرف أحد أين أنا.
أمي كانت تجوب المدن تسأل عني كمن يبحث عن أثر في العدم.
كل ليلة كنت أراها في أحلامي تمسك صورتي وتبكي.
كنت أسمعها تقول: “ولدي، قل لي إنك بخير.”
لكنها لا تسمع جوابي، لأن صوتي كان هناك، في حفرةٍ تحت الأرض، مختنقاً بين الجدران.
في تلك الزنازين، الزمن لا يمشي.
يتكور حولك مثل حيوان مفترس.
يأكل ذاكرتك، ينهش إرادتك، حتى تفقد الإحساس بالوقت.
أيامي كانت تُقاس بعدد المرات التي تمنيت فيها أن أموت.
تنقلت بين سبعة سجون.
كل مرةٍ كانوا يقولون إن هذا “آخر مكان”، ثم يرمون بي إلى مكانٍ أضيق.
سجن المدافن، المحكمة، الأمن السياسي، شملان القديم، شملان الجديد، الأمن القومي في بني حشيش، ثم حنيش في الحديدة.
سبعة أسماء لسبعة جحيمات، كل واحد منها كان يضيف وجعاً جديداً إلى قاموس روحي.
في زنزانة رقم خمسة، المكان الذي يسمونه “الضغّاطة”،
كنتُ أعيش مع الموت وجهاً لوجه.
الرطوبة تتساقط من السقف كدموع حجرية،
الهواء ثقيل حتى أن التنفس يصبح فعلاً بطولياً.
الشاويش هناك لا يصرخ، بل يزمجر.
في مرةٍ تأخرتُ دقيقتين في دورة المياه،
ركلني بقدمه حتى سقطت، ثم قال: “أنت لا تستحق حتى أن تُغسِل وجهك.”
ثم ضحك.
وأنا نظرت إلى الأرض، إلى وجهي الذي لم أعد أعرف ملامحه.
كل سجنٍ كان ينتزع مني شيئًا.
الأول سرق نومي،
الثاني أخذ لغتي،
الثالث محا وجهي من المرآة،
الرابع كسر قلبي،
الخامس جعلني أخاف الضوء،
السادس قتل جزءًا من إيماني،
والسابع دفن روحي ولم يُرجعها.
حين خرجت، لم أكن أنا.
جسدي فقط من خرج،
أما أنا الحقيقي، فبقي هناك، معلقاً في سقف الزنزانة.
أمشي في الشوارع كمن يسير داخل كابوس مفتوح.
صوت بابٍ يُغلق يجعلني أرتعش،
رائحة الصدأ تُعيدني إلى القيود،
يقولون لي: لقد نجوت.
لكن النجاة كذبة.
الناجي لا ينجو من نفسه.
أعيش بين الناس كأنني لست منهم،
أضحك حين يجب أن أضحك، وأصمت حين يجب أن أتكلم،
لكن في داخلي، صراخ لا يتوقف.
أحاول أن أبدو طبيعياً.
أرتدي قميصاً نظيفاً، أشرب الشاي، أقول صباح الخير.
لكن كل تفصيلٍ بسيط يذكّرني بالزنزانة.
الماء البارد في الكوب يشبه الماء الذي سكبوه على جسدي.
كل شيء في الخارج يعيدني إلى الداخل.
وحين يقول أحدهم: “انسَ الماضي”،
أبتسم.
كيف أنسى وأنا ما زلت هناك؟
كيف أنسى وأنا أستيقظ كل ليلة على صراخي؟
كيف أنسى وأمي ما زالت تخاف أن أغيب عن نظرها دقائق؟
أريد أن أعيش كما كنت.
أن أضحك دون خوف من أن يسمعني السجّان.
أن أرى وجه أمي دون أن يختنق قلبي بالذنب لأنني عدتُ وغيري لم يعد.
أريد أن أنام دون كوابيس،
أن أصدق أن الباب المفتوح لا يخفي عذاباً خلفه،
أن أشعر بالضوء دون أن أرتعب منه.
يا الله…
خذ عني هذا الثقل، هذا الركام الذي صار يعشعش في صدري.
أعد إليّ نفسي التي ضاعت في الزنازين،
أعد إليّ اسمي كما كان قبل أن يتحول الى الرقم 109،
أعد إليّ ضحكتي التي تركتها هناك، بين السياط والظلام.
أنا لا أطلب عدالة،
فالعدالة لا تأتي بعد خمس سنوات من العدم،
ولا أطلب شفقة.
لأن الشفقة لا تعيد من مات واقفاً.
كل ما أطلبه أن يصدقني العالم حين أقول:
“نجوت، نعم… لكنني لم أخرج.”
أنا ما زلت هناك،
في ذلك الكرسي، في العتمة التي تشبه رحماً لا تلد إلا وجعاً،
في تلك اللحظة التي انطفأ فيها الضوء
6 اشهر في الزنزانه.
وسمعت قلبي ينهار على صوتهم وهم يضحكون.
نجوتُ، نعم… لكن النجاة ليست حرية.
الحرية أن يُشفى الرأس من الصراخ،
أن تسكت الذاكرة قليلاً،
أن أقول بصدق هذه المرة إنني بخير.
أمنيتي الأخيرة
لا أتمنى شيئاً سوى أن أعود كما كنت قبل السجن.
أن أعود ذلك الشاب الذي ينام بطمأنينة، الذي يضحك من قلبه، الذي لا يرتجف من صوت الخطوات في الممر.
فمن يظن أنني متقلب أو مزاجي أو صعب العشرة، لا يعلم أنه يعيدني إلى السجن كل مرةٍ بكلماته.
كلمة واحدة قادرة أن تفتح الزنزانة في داخلي من جديد.
لذلك، لا أريد شفقة، اريد فقط يداً تمتد نحوي لتقول: أنا معك، لن تسقط وحدك.