منبر حر لكل اليمنيين

فوضى الإصدار النقدي المفرط

رياض الأكوع

تشخيص لأداء سوق الصرف في اليمن

تعاني اليمن من واحدة من أسوأ الأزمات النقدية في تاريخها الحديث، بفعل الانقسام المؤسسي للبنك المركزي، وغياب الرقابة، وتغوّل شبكات الفساد المالي والمصرفي. وتتجلى مظاهر هذه الأزمة بشكل واضح في سوق الصرف، الذي يفتقر إلى الحد الأدنى من الاستقرار، ويُدار وفق منطق المضاربة والمصالح الخاصة، أكثر من كونه سوقًا يخضع لسياسات نقدية واقعية ومنضبطة.

أولًا: فوضى الكتلة النقدية
يُقدّر إجمالي الكتلة النقدية المتداولة في السوق اليمنية حتى عام 2025 بنحو 3.725 تريليون ريال يمني، موزعة على إصدارين منفصلين: 1.325 تريليون ريال من العملة القديمة المعتمدة في صنعاء، و2.4 تريليون ريال من العملة المطبوعة حديثًا والمعتمدة في عدن. كلا الإصدارين يفتقران إلى غطاء نقدي أو قانوني، مع صافي احتياطي سلبي، وغياب قاعدة بيانات موحدة لحجم التداول الفعلي.
هذا الوضع أدى إلى انفصام واضح في بنية السوق النقدي، حيث يبلغ سعر الدولار في صنعاء 530 ريالًا، بينما يتجاوز في عدن 2800 ريال، وهو فارق يتجاوز خمسة أضعاف. ومع أن السعر العادل في عدن – وفقًا للكتلة النقدية المطروحة دون غطاء – يقدر بين 1100 و1200 ريال للدولار، إلا أن السوق يخضع لعوامل خارج إطار المعايير الاقتصادية.

ثانيًا: إخفاقات البنك المركزي اليمني – عدن
رغم نقل البنك المركزي إلى عدن وتوفر الدعم السياسي من الحكومة الشرعية، إلا أنه لم يتمكن من فرض رقابة حقيقية على السوق، أو ضبط الإصدار النقدي، أو السيطرة على نشاط شركات الصرافة والتحويلات.
تقرير فريق خبراء مجلس الأمن لعام 2020 أشار إلى وجود فوارق كبيرة في أسعار الصرف المعتمدة أثناء تدخلات البنك في السوق، وهو ما مكّن بعض البنوك التجارية من تحقيق أرباح غير مشروعة، ومن أبرزها: بنك التضامن الإسلامي (التابع لمجموعة هائل سعيد أنعم)، مصرف الكريمي الإسلامي، البنك الأهلي اليمني.
وتُظهر الوثائق أن هذه البنوك استفادت من سعر صرف تفضيلي دون أن تنعكس هذه الامتيازات على أسعار السلع، ما أدى إلى توسيع هامش الربح على حساب المواطن، وتكريس الفوضى في السوق.

ثالثًا: الاعتمادات المستندية والانحراف عن الهدف
تشير البيانات إلى أن مجموعة هائل سعيد أنعم تستحوذ على ما يقارب 50% من الاعتمادات المستندية الصادرة من البنك المركزي بعدن. ورغم حصولها على الدولار بسعر منخفض كثيرًا عن سعر السوق، لم تشهد أسعار منتجاتها انخفاضًا، بل ارتفعت بشكل متواصل، في دلالة على الانتهازية التجارية واستغلال غياب الرقابة.
والمفارقة أن المجموعة ذاتها تلتزم بدفع الضرائب والزكاة والجمارك لميليشيا الحوثي في صنعاء، ما يثير تساؤلات حول حيادها وولائها، ويعكس ازدواجًا في الخضوع ساهم في إطالة أمد الحرب الاقتصادية وتعقيداتها.

رابعًا: تقارير فريق الخبراء (2019–2022)
تقرير عام 2019 أشار إلى أن الانقسام المؤسسي للبنك المركزي ساهم في فقدان الثقة بالعملة الوطنية.
تقرير عام 2020 وثق غياب الشفافية في تدخلات البنك، وفوارق أسعار صرف حققت أرباحًا غير مشروعة للبنوك.
تقرير عام 2021 أكد أن نمط الإدارة النقدية ظل هشًا، والاعتمادات لم تكن موجهة وفق الأولويات.
تقرير عام 2022 أشار إلى تنامي السوق السوداء للعملات في عدن نفسها، رغم إعلان البنك تنفيذ آليات ضبط، لكنه فشل في تطبيق سياسة نقدية واقعية.

خامسًا: خطوات إيجابية تستحق التثمين
في هذا السياق، نشيد بقيام البنك المركزي اليمني في عدن، وبدعم من الحكومة المعترف بها دوليًا، باتخاذ خطوات ملموسة مؤخرًا لضبط المضاربين في سوق الصرف، ما أدى إلى تراجع كبير في أسعار العملات الأجنبية، وانعكس إيجابيًا – نسبيًا – على أسعار السلع والخدمات.
هذا التحسن، وإن كان لا يزال هشًا، إلا أنه يمثل بداية ضرورية لاستعادة الثقة في العملة الوطنية، شريطة أن تُستكمل هذه الإجراءات برقابة صارمة ومستمرة، ومعالجات جذرية للاختلالات البنيوية في السياسة النقدية.

الاستنتاجات والتوصيات:

1. الخلل الأساسي في المشهد النقدي اليمني يكمن في غياب دور رقابي مهني للبنك المركزي في عدن، وتغوّل الشركات التجارية الكبرى التي استغلت ضعف السياسات لتحقيق مكاسب غير مشروعة.

2. تحوّلت الاعتمادات المستندية من أداة لضبط السوق إلى وسيلة للإثراء السريع، في ظل غياب ربطها بسعر السوق وعدم ربطها بضوابط سعرية للسلع.

3. لا بد من ضمان استقلالية البنك المركزي بالكامل عن أي نفوذ سياسي أو تجاري، ومراجعة كافة آليات إصدار النقد وتوزيع الاعتمادات المستندية.

4. ضرورة إجراء تحقيق شفاف في عمليات تدخل البنك خلال السنوات السابقة، وتقييم المستفيدين الرئيسيين منها.

5. أهمية إنشاء وحدة رقابة مستقلة تتبع للبرلمان أو جهة رقابية عليا، لرصد تحركات سوق الصرف وضبط التدخلات.

يمثل المشهد النقدي في اليمن حالة نموذجية للفوضى المالية الناتجة عن التداخل بين السلطة والنفوذ المالي، وغياب الرقابة، وتفكك المؤسسات النقدية. استعادة الثقة بالعملة الوطنية لا يمكن أن تتحقق من خلال قرارات جزئية أو تدخلات موسمية، بل تتطلب تفكيك شبكات الفساد والريع التي تدير السوق من خلف الستار، وإعادة بناء السياسة النقدية على أسس مهنية، شفافة، ومستقلة.

رياض الأكوع

تعليقات