في بداية ديسمبر من عام 2017، كان اليمن يعيش لحظة مفصلية في تاريخه الحديث. كانت صنعاء على وشك أن تنفجر من الداخل، وكان الصوت الجمهوري الأخير فيها يستعد للرحيل. هناك في الثنية في الحي السياسي وسط العاصمة صنعاء، وقف رجلٌ تحوّل إلى أيقونة جدلية في تاريخ اليمن الحديث؛ هو الرئيس السابق علي عبد الله صالح، الذي اختار أن يُقاتل حتى الرمق الأخير، ورفض الهروب من بلده أو تسليم نفسه، وفضّل أن يموت واقفًا، شجاعًا، وجمهوريًا حتى النهاية.
⸻
الشهادة على أعتاب الجمهورية
في اللحظات الأخيرة من حياته، لم يكن صالح يملك جيشًا ولا مؤسسات دولة تحميه، بل حفنة من الحراس والرجال المخلصين، وقفوا معه مدافعين عن بيته، عن كرامته، وعن حلمه الجمهوري الذي قضى عمره من أجله. اختار المعركة، لا لأن النصر كان مضمونًا، بل لأن الكرامة لا تُقايض، والسيادة لا تُباع، ولأن الجبال لا تهرب من العواصف، بل تواجهها بصمتٍ وشموخ.
رفض صالح العروض التي انهالت عليه من وسطاء محليين ودوليين للخروج الآمن. رفض التنكر لتاريخه، ولم يساوم على الجمهورية. كان يعرف تمامًا أنه يُحاصر، ويُخون، ويُستهدف من قبل من أُجبر على التحالف معهم يومًا، ثم انقلبوا عليه غدرًا. ومع ذلك، لم يُسلّم، لم ينهزم، ولم يُبدِ لحظة ضعف. قاوم حتى النهاية، في مواجهة الحكم الكهنوتي الذي أراد استئصال آخر رموز الجمهورية من قلب العاصمة.
⸻
تحالف الضرورة: حين ضُيّقت الخيارات
كثيرون لا يدركون أن التحالف الذي جمع علي عبد الله صالح بالحوثيين لم يكن خيارًا حرًا، بل تحالفًا اضطراريًا فُرض عليه بفعل السياسات الخاطئة لخصومه الداخليين، وتحامل بعض أطراف التحالف العربي.
صالح، الذي خاض ست حروب ضد الحوثيين أثناء حكمه، كان من أوائل من حذّر من خطرهم، وظل، حتى بعد انطلاق الحرب في 2015، رافضًا لأي تحالف معهم. بل حاول أن يبقى في موقع “الحياد المؤثر”، واضعًا مصلحة اليمن أولًا، على أمل أن يتم استيعابه ضمن مشروع استعادة الدولة.
لكن التحالف العربي، وبفعل الوشايات والحقد السياسي من خصومه المحليين، تعامل مع صالح كخصم بدلًا من شريك طبيعي في الدفاع عن الجمهورية. تعرّض للقصف، هو وبيوته وممتلكاته وقواته، وجُمدت أصوله، وتم تحريض الرأي العام الإقليمي ضده، في وقت كانت فيه صنعاء تتفكك، وتتمدد جماعة الحوثي.
ولم يُترك لصالح أي خيار. لم يمنحه التحالف مساحة للمناورة، ولا وفّر له الداخل بيئة آمنة للتحرك. فكان لا بد له من عقد تحالف مرحلي مع الحوثيين، لا عن قناعة، بل عن حاجة قاهرة وواقع سياسي مغلق. وكان تحالفًا هشًا ومشحونًا، سرعان ما انفجر في وجه الجميع حين أعلن صالح انتفاضته ضدهم في ديسمبر 2017، قائلاً:
“آن أن يثور الشعب اليمني ضد الحوثيين… لقد طفح الكيل.”
فأثبت بذلك أنه لم يتحالف معهم من قلبه، بل حاصرته الظروف حتى لم يبقَ له من خيار سوى تقاطع الضرورات.
وبهذا الإعلان، سقطت ورقة التفاهم بين الطرفين، وعاد صالح إلى موقعه الطبيعي كقائد جمهوري رافض للحكم الكهنوتي. لكنه لم يجد حينها من يقف معه، بعد أن طوّقته الخيانات من الداخل، وتُرك ليقاتل وحيدًا، بعد أن خذله الداخل والخارج معًا.
⸻
المعركة الأخيرة.. وفاء حتى النفس الأخير
في يومه الأخير، لم يبحث صالح عن ملجأ، ولم يتوسل النجاة. لم يستسلم، لم يُسلّم، ولم يقبل أي صفقة للنجاة.
رغم أنه كان يملك القدرة على الهروب، فقد رفض الخروج هاربًا من أرضٍ حكمها، وبناها، ودافع عنها طيلة أكثر من ثلاثة عقود.
قاتل حتى ارتقى شهيدًا مدافعًا عن بيته، عن كرامته، عن وطنه، وعن النظام الجمهوري الذي لطالما آمن به.
لقد خُذل من كثيرين، وتآمرت عليه أطراف محلية وإقليمية، وكان الحقد عليه من خصومه كافيًا ليتمنى بعضهم نهايته. لكن لحظة استشهاده أعادت تعريفه مجددًا، لا كرئيس سابق مثير للجدل، بل كـرمز صلب قاوم الانكسار حتى اللحظة الأخيرة، وكزعيم اختار أن يستشهد واقفًا على تراب وطنه، مدافعًا عن جمهوريته، رافضًا لحكم الميليشيات والظلام والرجعية.
⸻
صالح.. وخسارة وطن
لم تكن خسارة صالح مجرد فقدان رئيس سابق، بل كانت استكمالاً لانهيار هيبة الدولة، وضياع ما تبقّى من توازن القوى داخل اليمن، وتلاشي الأمل في استعادة الدولة والجمهورية بسرعة.
بعد موته، انفرط عقد المقاومة في صنعاء، وتمددت سلطة الميليشيا الحوثية بلا منازع. ومنذ تلك اللحظة، لم يشهد اليمن رجلًا قادرًا على ملء الفراغ، لا في التأثير، ولا في الشجاعة، ولا في الكاريزما الوطنية.
⸻
كلمة وفاء أخيرة
رحم الله علي عبد الله صالح. استُشهد وبقيت ذكراه, رحل رافع الراس، لأن الموت لم يأخذه مهزومًا، بل شهيدًا واقفًا، جمهوريًا، يمنيًا حتى آخر لحظة.
سيبقى صالح، في ذاكرة كثير من اليمنيين، رمزًا للدولة والوحدة والاستقرار، ومثالًا للموقف، والشجاعة، والكرامة الوطنية في وجه الكهنوت والاستبداد.
لقد مات صالح، لكن بعده… ضاع وطن.
*من صفحة أخيه معاذ على فيس بوك.