منبر حر لكل اليمنيين

حين تصبح القبيلة حزباً والدولة غنيمة

زكريا نمر

“حين تصبح القبيلة حزباً والدولة غنيم.

الاختيار على أساس قبلي أو جهوي ليس مجرد خلل في المنهج، بل هو مرض اجتماعي وسياسي يضرب في عمق الوعي الجمعي، ويقوض إمكانيات بناء دولة حديثة عادلة تقوم على أساس المواطنة والكفاءة والحقوق المتساوية. إنه انتكاس حاد، لا إلى الوراء فحسب، بل إلى الوراء المظلم، حيث لا اعتبار إلا للانتماء الدموي، ولا معنى إلا لما يمنحه النسب، لا لما يقدمه الإنسان من عطاء.

كلما انكمشت الجماعات داخل حدودها القبلية، وبدأت تبحث عن “الأكفأ” فقط من بين أبنائها، نكون أمام وهم كبير: وهم الكفاءة في الظل المحدود. ذلك أن الكفاءة الحقيقية لا تُقاس في حدود العشيرة، بل في المساحات المفتوحة، حيث يحتك الجميع بالجميع، وتتنافس العقول لا الأنساب.

في القبيلة، يولد الإنسان بمكانة جاهزة. هو ابن فلان، من سلالة علان. لا حاجة لبذل جهد أو لإثبات استحقاق، فالنسب هو التأشيرة الوحيدة للدخول إلى دوائر النفوذ والتقدير. أما في الدولة الحديثة، فالولادة لا تمنحك شيئاً سوى الحقوق العامة. كل شيء آخر يجب أن يُكتسب. المناصب تُنال بالكفاءة، والمكانة تُبنى على الاجتهاد، والتقدير يُنتزع بالإنجاز. في القبيلة، تتقدم القرابة على الجدارة، وتُوزع الفرص بالمحسوبيات والمجاملات. أما في الدولة، فالقانون سيد الجميع، والمواطن يقف أمام المؤسسة لا أمام شيخ القبيلة.

الانتكاس إلى القبيلة يعني، ببساطة، أن نطفئ شعلة التنافس الشريف، ونخنق الكفاءات في مهدها. فحين يكون الولاء للقبيلة أهم من الولاء للوطن، تضيع الأولويات. تُختزل فكرة الوطن في حدود الجغرافيا القبلية، ويُختزل الانتماء في رابطة الدم لا في عقد المواطنة. والنتيجة؟ قرارات ضعيفة تُتخذ لترضية شيوخ العشائر لا لمصلحة الوطن. مناصب تُمنح لمن لا يستحق، فقط لأنه “منّا وفينا”. موارد تُهدر لأن “الحصة” أهم من “المشروع”. والشعور بالانتماء ينهار، لأن من لا قبيلة له، لا صوت له.

إننا حين ندير شؤون الوطن بعقلية القبيلة، فإننا نديره كملكية خاصة، لا كأرض مشتركة لكل المواطنين. القبيلة جزء من الذاكرة والهوية، ولا يمكن إنكار دورها التاريخي في حماية الناس وتنظيم الحياة في زمن ما قبل الدولة.
لكن استمرارها كنظام سياسي واجتماعي مهيمن في عصر الدولة الحديثة، هو أكبر عائق أمام التقدم والعدالة والمساواة. الخروج من منطق القبيلة لا يعني التنكر للأصل، بل يعني الانتقال من مرحلة الحماية إلى مرحلة الحقوق، من نظام الولاء إلى نظام القانون.

فكما لا يمكن بناء مدينة بعقلية القرية، لا يمكن بناء دولة بعقلية القبيلة. التنوع لا يجب أن يكون سبباً للتشرذم، بل منبعاً للغنى، ومصدراً للتنافس لا للتنازع. بقاءنا داخل دائرة القبيلة كمصدر أساسي للشرعية والاختيار، يعني أننا سنبقى ندور في حلقة مفرغة من التكرار والخيبات.
سنبقى نختار “من نعرفه” لا “من يستحق”ونصوت “لأهلنا” لا “لمن ينفعنا”ونرفع شعارات المصلحة العامة، ونخدم المصالح الخاصة.

فإن كسر هذا القيد، أي التحرر من منطق القبلية في السياسة والإدارة والتعليم والتوظيف، ليس خياراً نخبويًا، بل ضرورة وطنية وأخلاقية. إننا إن لم نتحرر من ربقة القبيلة، فسوف نخسر الوطن برمته. سنخسر الدولة التي نحلم بها، وسنظل أسرى الهويات الضيقة التي لا ترى أبعد من حدود الدم.

#زكريا_نمر

تعليقات