منبر حر لكل اليمنيين

اليمن بين إنقاذ بعيد وتجاهل قريب

مصطفى المخلافي

في الوقت الذي كانت فيه شاشات العالم تنقل مشاهد التدخلات الدولية والإقليمية في الملف السوري مدفوعة بلهجة منع الانهيار الكامل، كان اليمن ذلك البلد الذي لا يبعد عن الرياض إلا بمقدار زفرة يُترك لمصيره، ثم يُسلم لميليشيا مذهبية مسلحة، ويُقطع أوصاله واحدة تلو الأخرى، تحت أعين الشرعية، ثم ماذا؟ ثم قفزت السعودية بكل ثقلها إلى سوريا، وكأن دمشق أقرب من صنعاء، وكأن الانهيار اليمني لا يهدد أمن الخليج كما يهدده مصير سوريا، لكن هذه المسافة في الجغرافيا تكشف عمق البُعد في الرؤية، وربما في الفهم والتقدير.

ليست المعضلة في اليمن فقط بأن المعركة توقفت، بل لأنها تُدار منذ سنوات طويلة بلا أي نية للحسم، وبلا قرار عسكري صلب، وبلا أي ملامح انتصار، والسبب لأن قرار الحرب تُرك لمكاتب القرار في الخارج، وتحديداً في غرف التفاوض الباردة التي تُدار فيها الصفقات وتُرسم فيها الحلول، فيما لا تزال الجبهات الحقيقية تُستنزف ببطء، والمواطن يُسحق تحت الحصار والجوع والإذلال، فيما الخارج بكل تشعباته لا يريد نصراً في اليمن، بل يريد معادلة توازن تدوم، معادلة تبقى الميليشيا قوية بما يكفي لمنع قيام دولة، وتبقى الشرعية ضعيفة بما يكفي لئلا تفكر بتجاوز أحد.

في العام ٢٠١١م خرجوا شلة فبراير إلى الساحات رافعين شعارات الحرية والكرامة، وهم أبناء نعيم مستقر، لم يدركوا قيمة النعيم الذي كانوا عليه، اليوم وقد تحولت البلاد إلى سجن كبير تحكمه ميليشيا مذهبية، تُصادر الحياة والهوية، لا نجد منهم سوى صمت مطبق، لا مظاهرات، لا احتجاج، ولا حتى بيان خجول، كأن الصوت الذي صدح يوماً منادياً بالحرية، لم يكن إلا صدى مصلحة عابرة، تحركه غريزة الانتقام لا غريزة المطالب.

وللعودة لصلب الموضوع نجد أن الخارج كلما ضاق به الحال، عاد ومعه الوسطاء إلى صناديق أدواتهم القديمة، ينبشون منها نفس الوجوه التي أثبتت فشلها مراراً، ويعرضونها على الناس باعتبارها حلولاً توافقية، وكأننا في ساحة تدوير نفايات سياسية، لا مشهد تحرري يستحق دماء الشهداء، مشهد يُعاد فيه تلميع أسماء لا تحمل أي حضور على الأرض، ولا شرعية في الذاكرة، وتُقدم كأنها منقذة، فيما الواقع يزداد تأزم، وكأنهم لا يعلموا بأن الكروت المستهلكة لا تصنع حلولاً بقدر ما تُطيل عمر الكارثة.

ما بعد العام ٢٠٢٠م، بدأت تتضح ملامح التراجع الإقليمي، ليس فقط من حيث الدعم الميداني، بل من حيث تغير البوصلة السياسية، انسحبت بعض العواصم من المشهد اليمني بصمت، واكتفت بالبيانات أو برعاية مفاوضات شكلية، حتى الرياض نفسها، بدأت تتجه نحو سلام بارد أقرب إلى تسوية مصالح منها إلى مشروع تحرير، كان ذلك لحظة تخلي لا لبس فيه، لكن السؤال الذي يطرح نفسه؟ كيف ينهار الاهتمام الإقليمي ببلد لا يشكل فقط عمقاً جغرافياً بل رئةً أمنية واقتصادية وثقافية؟

لم تكن المأساة لتكتمل دون عجز الشرعية وتواطؤ بعض مكوناتها، وضياع القرار الوطني فيها، ولذلك فقدت الشرعية بوصلتها وتحولت من مشروع تحرر إلى جهاز إداري ينتظر المخصصات، غابت عن الجبهات، وغرقت في المنافي، وتركت للناس وعوداً خاوية وممثلين بلا أدوات ولا قرار، في المقابل رسخت ميليشيا الحوثي مشروعها القمعي وأعادت تعريف اليمن من زاوية طائفية سلطوية، تقوم على السلالة، وتحتقر المواطنة، وتمارس التسلط باسم الدين، فيما تقيم دولة موازية لا تعترف حتى بظل الدولة.

ختاماً:
إن هذا الحديث ليس نداء استغاثة، إنما هو محاولة لفهم لماذا يُترك بلد كاليمن ليكون فراغاً جيوسياسياً مفتوحاً على كل الاحتمالات، لماذا خُذل من الداخل والخارج في آن واحد، وتُرك للوجوه المكررة وللمليشيات والمساومات الدولية، اليمن كما يعرفه أهله، لا يُحرر بالنوايا الطيبة، ولا بالمفاوضات العقيمة، ولا بمفاهيم الإدماج مع القتَلة، اليمن يحتاج إلى إرادة تحرير حقيقية، تبدأ من الاعتراف أن لا حل مع الحوثي إلا بزوال مشروعه، ولا مستقبل مع شرعية تتعامل مع البلاد كمنفى مدفوع التكاليف.

تعليقات