منبر حر لكل اليمنيين

صديقي ياسين

حميد الرقيمي

عندما التقينا أول مرة، اخترنا أن نتناول وجبة الغداء في مطعم شعبي مغمور. كان ذلك المطعم، الذي شهد لقائنا الأول، يشبهنا إلى حد كبير، وكنّا الوحيدين الذين شغلوا طاولة معزولة في الركن الضيق من مساحة المكان. نأكل العصيد ونتلو أحزاننا وأفراحنا وذكريات نصوصنا، كما لو كنّا خارجين من معركة دامية لم ينجُ منها أحد سوانا.
أتأمل فيك الشاعر، حتى أخال القصيدة خارجة من عينك اليمنى، وقد كساها البياض من شدة البكاء، ثم لا تلبث أن تقيم العزاء على وطن لم يستطع أن يحتمل خفتك وجمالك. أحاول أن أبقيك في المكان الذي نحن عليه، وتصرّ على أن نبقي المعنى حاضراً، وعلى جدائله هوية البلاد التي لم تمنحك خصلة واحدة تنقذك من الغرق.
وكنت أسأل نفسي، وأنت تصدر ضحكتك كما يفعل الأطفال بعد بكاء طويل: كيف لهذا الرجل أن يبقي على براءته وصدق قوله في هكذا واقع؟
لم أطرح عليك هذا السؤال، ولم تتركني أفسّر كل معنى على حدة دون أن تضعني في مواجهة معانٍ أخرى أكثر ألقاً وصدقاً.
كانت الدهشة تملأ نفسي، وكنتَ، في ذلك المكان المتواضع الذي اخترته أنت، قريباً من ذاتي أكثر من أي وقت آخر.
شربنا بهدوء الشاي، وخرجنا إلى الفوضى. خرجنا إلى العدم الذي كان يخيفك صخبه، ويجعلك تمسك على يدي بشدة خوفاً من عجلة طائشة تأتي من حيث لا تعلم.
أخبرتني بأنك تخاف الزحام، لا تحب أن تسير في هذه الشوارع دون أن تتكئ على أحد، وعندما أعدتك إلى قصائدك التي تحرّض فيها الآخرين على الوقوف دون عون أحد، أخبرتني بأن كل صديق مخلص لك هو ذاتك ومعناك.
رحنا نتأمل الناس في عراكهم مع الحياة، وكنتُ، وأنا أقودك، أشعر بأن حشداً من القوافي والقصائد والكلمات تسير على خطاي. كنتُ أشعر بأنني أقود شعباً كاملاً، ويدك على يدي، أشعر بعرقها المنساح وخوفها المبالغ فيه.
لم أكن على دراية بأن موتاً ساكناً يجثم على جسدك، حتى وقعت فجأة في منتصف الطريق.
خفت، يا صديقي، خفت كثيراً وأنا أشاهد في عينيك الموت حاضراً بقوة.
كان هذا الهبوط الفجائي فاتحةً أخرى لعلاقتنا التي ستمتد كثيراً، وكنتَ تحاول وقتها أن تُبقيني على طبيعتي، طالباً مني شوكولاتة تساعدك على التوازن.
وبعزيمتك وحدها أفقْتَ من وجعك، وعادت إليك ضحكة الأطفال التي لم تخفها هذه النكسة الخبيثة.
وحتى أكون صادقاً، فقد شعرت أكثر منك بمرارة الموت. شعرت بالمعنى الآخر، الذي ظلّت قصائدك توزّعه على القوافي كلما أمسكت قلمك.
حينها أخبرتني بأن السكري يستوطن حياتك منذ أكثر من عشرين عاماً. شرحت لي ذلك اليوم الذي وجد فيه الطريق إليك، وأنت عائد إلى قريتك، في حادثٍ أخذ صديقك إلى الموت، وبقيت وحدك شاهداً عليه ومسكوناً به.
ومنذ تلك اللحظة، يا صديقي، كان لقائي بك وداعاً، ووداعك موتاً مؤجلاً، أحمل عبراته في صمت حتى ألقاك من جديد.
لم تُخفِ عني خذلان البلاد وأهلها، ولم تصدر منك شتيمة تلعن فيها الرفاق وتبصق في حياتهم.
كانت عوالمك مليئة بالحضور، الذي يجعلك تستشعر قيمة الكلمة الخالدة. وكنت على ثقة بأنك لن تغيب، لن يقطعك الموت الذي عشتَ تراوغه في كل خطاك.
وكنتَ تؤكد، على الدوام، بأن كل قصيدة تنجزها تعميدٌ لحضورك، وتأكيد على بقائك، رغم الموت نفسه.
“سيعرفني الناس بعد موتي، يا حميد، وسيجدون عبورهم الدامي مكتوباً على الورق؛ لهذا أكتب كثيراً.
يعيبني البعض على ذلك، لكنهم لا يراقبون الموت مثلي.”
هذا ما كنت تقوله مع كل قصيدة، وهذا نهجك الذي عشت عليه: تصارع الجوع والمرض والواقع المبتذل.
غير أنني كنت على دراية بأنك عابر إلى الضفة الأخرى، عائد إلى غيومك، وقد نسجت معناك في مدارات الضوء، وربطت مرساك في أبجديات لا تفنى.
كنتُ أعرف بأن المآتم التي ستقام فجأة بعد غيابك، لن تعيدك من جديد، وبأن التعازي المشحونة بالعاطفة الجياشة لن تفي حقك، ولن تمسح على قلبك المتعب، الذي ملأته الحياة قهراً وخذلاناً.
كنتُ أعرف، يا صديقي، بأن هذا كلَّه لن يشيّدك بالبقاء، وستكون وحدها قصائدك ومواقفك شاهدة وحاضرة وخالدة في أنصع مكان، يتلو عليه الإنسان رثاءه ونضاله ودستور حياته.
لهذا، مثلك لا يحدّه الموت من الحضور، ومثلك لا تنال من اسمه ومعناه وخصاله ألف ميتة.

تعليقات