ينتابني شعور الألم كلما كتبت عن ذكرى جريمة دار الرئاسة الإرهابية، الجريمة التي اختارت موعد التنفيذ في أول جمعة رجب لتكون شاهدة على أبشع جرائم الجماعات الدينية المتطرفة، أو كما يقولون جماعات الدين السياسي، ولم تكن صنعاء حينها بعيدة عن هذا الوجع، فقد نزفت هي أيضاً وهي تشاهد ربانها وقيادت الدولة يُستهدفون ويقتلون وهم بين يدي خالقهم، وكأنها كانت تودع فصل جديد وتقول كفو عني اذاكم، كان اليمن يومها يبدو مثل نبوءة قادمة من زمن مختلف، زمن لا يُشبه دولة الشهيد الزعيم علي عبدالله صالح، عاشت صنعاء وباقي المحافظات اليمنية يومها كرسالة تم حرقها قبل أن تُقرأ، فهمت صنعاء يومها بعد هذا العمل الإرهابي الجبان ماذا يعني الجوع والخوف الذي يجب رؤيته، وماذا يعني القلق والنسيان وسحق الكرامة وامتهان وابتذال قيم الإنسانية، كنا نُدرك يومها أن ما نستهلكه من تفكير ورعب سيرافقنا لسنين عديدة قادمة، أُستهدف الرئيس علي عبدالله صالح في دار الرئاسة، وهذا بحد ذاته حدث سيُغير مجرى الصراع إلى الأبد، وفعلاً هذا ما حدث، وهذا ما عشناه ونعيشه لليوم، عرفنا أيضاً أن جمال صنعاء قد خُدش، بعد أن حُصرت كمتهم في قفص محاط بالدماء، تحول اليمن كله في هذا اليوم إلى عتمة مثل بطن الحوت من الداخل، ومن هنا بدأ كتابة عهد جديد لليمن واليمنيين، عنوانه الدم، ومضمونه الموت.
في العام 2011م وفي أول جمعة رجب ذهب الرئيس علي عبدالله صالح لأداء صلاة الجمعة في مسجد دار الرئاسة ومعه كل قيادات الدولة، يومها كانت الوساطات تتحدث عن تهدئة، ولم يتوقع حينها الرئيس بأن مكان الغدر سيكون في عقر بيت من بيوت الله، وهو الذي كان يُدرك بأن الأيادي الغادرة تُخطط لقتله، وقد حرص إلا يُدير ظهره لكل هذا التوجس، لكنه أدار ظهره مرة واحدة، أداره ليصلي بين يدي الله، وفي هذه المرة حاولوا قتله واستهدفوه بأبشع عملية ارهابية، في المكان الذي أمن فيه على روحه وجسده، وربما هذا هو السبب الرئيسي في أننا ما زلنا لا نستطيع التوقف عن النظر إلى هذه الجريمة باعتبارها الجريمة السابقة في التاريخ في بشاعتها ومكان وقوعها وأيضاً في طريقة تنفيذها، وهذا هو المعنى الحقيقي لأن تموت دون إعلان واضح، وكيف تبقى أسير اللحظة والمشاهد كلها من حولك تتكدس مثل جثث الموتى والجرحى، ثم ماذا؟ تمضي السنين دون أن يتورط صالح أو أحد من أقاربه في الانتقام، وهو اختبار قاسي لضبط النفس الذي غير مشهد الصراع ما بعد الجريمة، وحوله إلى جريمة إرهابية مكتملة الأركان دون أي رد فعل، رغم امتلاك الحق في الرد والدفاع عن النفس، لكنه صالح الذي يتسامى عن الجراح.
بلا شك بأن جريمة دار الرئاسة الإرهابية أدخلت اليمن في صراع، صراع دائم بين اليمنيين وبين الخارج وبين مصيرك الذي لا يراه أحداً سواك، كانت البداية في عقر مسجد دار الرئاسة، ثم بدأ الصراع يسرق ملامح الوطن ببطء شديد، كمن يعيش تحت الضوء الكبير ثم يفقد احساسه بمحيطه، فيتعلم كيف يرسم الأحلام ولو على مستقبل مظلم.
لكن في نهاية الأمر إذا أردنا الحديث بالتفصيل الممل عن سلسلة الأحداث التي تلت فوضى فبراير، فإن الحديث دائماً ما يقودنا لهذه الجريمة، وعن التخادم يومها بين تنظيم الإخوان ( حزب الإصلاح) وبين ميليشيا الحوثي الإرهابية، التي فتحت لها فوضى فبراير وجريمة دار الرئاسة ثقباً أسوداً في اختراق الدولة والسطو عليها وإسقاط العاصمة صنعاء وتدمير دولة بكل أركانها، على رأس ذلك الوحدة اليمنية المُباركة، وبين كل هذا الزحام، كان الإقليم والعالم يُراقب ما يحدث بصمت، يربت على ركبتيه ويرسم خريطة اليمن كما لو أنها لوحة رسام قابلة للشطب والتعديل وتقاسم المنافع، فيما الإخوان والحوثي اكتفوا بتنفيذ ما طُلب منهم، واستمروا في نخر الدولة والتوسع وتقاسم المصالح، حينها كان الرئيس صالح مُثخن بالحروق التي التهمت كامل جسده، وقبلها خرج علينا ليقول إذا أنتم بخير فأنا بخير، ومن هنا أُغلق الباب في وجه الجمهورية، كان هذا آخر نداء للحفاظ على الوطن، اتصال هاتفي من رئيس الجمهورية لقائد الحرس الجمهوري القائد أحمد علي عبدالله صالح، يخبره ويوجهه بأن ولا طلقة، حافظوا على اليمن واحقنوا دماء اليمنيين، فما كان من قائد الحرس الجمهوري سوى الامتثال للأوامر رغم امتلاكه للقوة حينها التي كانت باستطاعتها قلب المعادلة وردع الإرهابيين، كان هذا الاتصال رسالة من رجل أضاء اليمن، وعلمنا كيفية الصعود للأعلى بأحلامنا وتطلعاتنا، لينتهي بنا المطاف بالسقوط نحو هاوية لا قاع لها ولا نهاية.
اليوم نعيش الذكرى الرابعة عشرة لهذه الجريمة الإرهابية المنظمة والأليمة، وما زالت الخيوط نفسها التي حاكت هذا الجريمة تمارس نفس الدور لكن بطرق مختلفة، ضوء مخادع واحد لا يُشبه اليمن، لكنه مظلم، هكذا بدت القصة، حين ظن المغرر بهم بأن أيادي الغدر تحمل بأيديها مصابيح، وفي الوقت الذي كانت فيه امرأة تحاول إنقاذ نفسها من خديعة هذا الضوء، كان أحدهم يخطب في ساحة حي الجامعة ويبشر المغرر بهم باستهداف رئيس الدولة لتعلوا التكبيرات في مشهد جسد معنى أن تكون مشاركاً في القتل والجريمة.
أكتب عن هذه الجريمة الإرهابية وكأني أنقب في ركام تلك اللحظات، أبحث فيها عن رائحة دولة صالح، عن بيت قديم لا يصرخ أهله من تبعاتها، عن زوايا المسجد وضحاياه، عن النجاة والنسيان معاً، جريمة تعود بنا إلى اليمن حين كان ينهار بصمت، وكأن نجاته في تلك اللحظة كان آخر معاقل الحلم، جريمة حولت الوطن إلى جرح يأبى أن يلتئم، كل فصل فيه محاولة لترميم ما دُمر وكُسر، نتحدث عن وطن نشأ منذُ ذلك اليوم على أصوات الطائرات والقصف والموت والجوح معاً، وتعلم أن يبتسم وهو يختبئ تحت وطأة الضغوطات.
ولربما وجدت نفسي هنا أقف أمام وطن يسأل أكثر مما يُجيب، وطن تعلم أن يسير قرب الحافة من دون أن يتورط مع أحد، نحن أمام بكاء وطن لا يطلب الإذن، يبدأ فجأة ثم يطول، ثم يزداد، فيما أنا الآن أبدو وكأني اكتب لأمنع الخراب من أن يكون الحقيقة الوحيدة بعد رحيل الرئيس صالح.
أما الحقيقة الثابتة هي أن الزعيم صالح كان يحب أن يرى الموت يقترب منه دون خشية، كان مهيأ نفسه للرحيل في سبيل هذا الوطن والشعب، قاربه الموت وهو يفقد بعض هيبته، أنا أمام صالح يقول، لكن صالح بشجاعته أربك النهاية، أربك هيبة الموت، يخاطبه سأذهب معك إلى آخر الطريق، وأختار الطريقة المُثلى، كمن يختار قطعة حلوى دون تردد، لهذا لم اتفاجأ حين رأيت صديقاً عراقياً يوصف اللحظات الأخيرة لصالح الشهيد بأنه رحيل يُشبه الغروب، هادئ في ظاهره، لكنه يوجع القلب، ليبقى السؤال معلقاً كما بدأ، هل أختار الموت صالح؟ أم صالح من أختار الموت وجره بيده؟