منبر حر لكل اليمنيين

أربعة وجوه علمتني

د. عمار علي حسن

في كل مرة أبدأ كتابة رواية جديدة أو بحث أو كتاب، ترد إلى ذهني أربعة وجوه: وجه أبي في حقله، ووجه سيدة قابلتها مصادفة في حافلة، ووجه رجل رأيته في فيلم أمريكي اسمه “الجبل”، ووجه البنَّاء الذي يقيم الجدران في قريتي.
من هؤلاء آتي بالمدد، وأتعلم المثابرة والسعي والكد والاجتهاد، وأقاوم الكسل والكلل والملل. وإليهم جميعا أحيل كثيرا مما تعلمته في الحياة، وحين يسألني بعض الصحفيين عن غزارة إنتاجي، الذي زاد اليوم عن ستين كتابا في الأدب والعلوم الإنسانية، أستحضر الوجوه الأربعة، وأجد نفسي في امتنان عميم لأصحابها.
يأتي وجه أبي وهو يرفع أول ضربة فأس في أرض قاحلة ممتدة أمامه، وأنا إلى جانبه، أفعل ما يفعل، لكنه لا ييأس بل يواصل الضربات، والفأس تقضم التربة في نهم، فإذا بالبوار يرحل ويزدهي الطمي تحت قدميه وخلفهما، مشتاقا إلى البذور لينبت الزرع البهي. ضربة وراء ضربة يتغير الحال من الفراغ إلى الامتلاء، ومن الحذف إلى الإضافة، ومن السلب إلى الإيجاب، ومن شبه العدم إلى الوجود الظاهر، ومن القفر إلى الخضرة اليانعة، أي من الخراب إلى العمار.
أما السيدة فهي تلك التي رأيتها ذات يوم في حافلة ركبتها من جامعة القاهرة إلى ميدان التحرير حيث مكان عملي القريب منه. كنت طالب دراسات عليا أعد أطروحتي للماجستير، وقد جمعت مادتي العلمية حتى وصلت إلى حد التشبع، لكن أصابني كسل فقعدت أسابيع عن البدء في الكتابة متهيبا إياها ومستثقلا، إلى أن رأيتها تجلس على مقعد أمامي، وفي يدها إبرة تريكو وخيوط ذات ألوان أربعة، تدور الإبرة وأصابعها بينها حتى تصنع عقدة، وتتبعها بأخرى، وهكذا حتى يصبح خطًا منسوجًا بإحكام، وقدرت أن الخط سيصبح خيوطًا متضافرة، وكل الخيوط ستتجمع في النهاية لتصنع “بلوفر” تهديه لزوجها أو ابنها أو تبيعه، وتستعين بثمنه على قضاء بعض حوائجها.
وقفت أتابع دأبها في شغف عميق، وتعلمت منها أن تراكم القليل يصبح كثيرًا، وتتابع الصغير يجعله كبيرًا. وقلت لنفسي وأنا واقف أمامها مشدوها: حرف وراء حرف، تولد كلمة، وكلمات تصنع جملة، وعبارات تصبح فقرة، وفقرات تصبح صفحة، وصفحات تصير صفحات فمبحثًا ففصلًا، وفصول تتتابع تخلق كتابًا، يحقق المراد.
قبضت على الحكمة التي تعلمتها في هذا الصباح البارد، وهبطت في المحطة المبتغاة، وهاتفت مكان عملي، وطلبت إجازة عارضة، وعدت إلى البيت في الحافلة الراجعة إلى حيث أسكن، وهرعت إلى المعلومات والبيانات والتصورات والأفكار التي كنت قد وزعتها في “كروت بحثية”، وفق خطة أطروحتي، ووضعتها في كرتونة كبيرة حتى امتلأت عن آخرها، فأخرجتها جميعا، ووضعتها على طاولة الطعام، والتقطت منها ما يخص النقطة الأولى، في المبحث الأول، من الفصل الأول، فقرأتها على مهل، وأعدت القراءة، وتركتها بعض الوقت أتأمل ما يموج به رأسي من أفكار، ثم سحبت قلمي، ودفعته إلى أوراق بيضاء أمامي، وأقبلت على الكتابة في شغف شديد.
والوجه الثالث الذي تعلمت منه هو وجه بطل الفيلم فكان عليه أن يصعد الجبل، متجنبا المصير القاسي لسيزيف، حتى يصل إلى كنز هناك يعرف مكانه في القمة الشاهقة، ويقصده دون غيره، ولا يريد أن ينفك حتى يبلغه. كان يحمل قادوما حديديا في يده، يضرب به الصخر الصوان حتى يصنع لقدميه موطأ، ثم يرتقيه، وينقر ما هو أعلى، ليحفر موضعا جديدا، ويصعد. كان وجهه يتصبب عرقًا غزيرًا، ينكسب أحيانا على عينيه، فتغيم منه الرؤية، لكنه لا يفقد اتزانه، يمسح الماء المالح الخارج من جسده، فيرى طريقه من جديد. كان يتعب فيتوقف قليلا، ليلتقط أنفاسه، لكنه لا يلبث أن يعود إلى الضربات المتلاحقة، أقوى مما كانت، متغلبًا على الإجهاد، والغبار، وأحجار صغيرة تسوقها الريح، وذكريات قاسية تداهمه، حتى صار واقفًا فوق القمة، ينظر في فرح إلى الخلاء تحته، والأرض الصفراء الممتدة بلا نهاية.
أما البنَّاء، فقد عملت خلفه مناولًا، ألتقط قوالب الطوب اللبن، وأرميها إليه، فيلقفها بيده سريعًا، ويضعها في مكانها من المدماك، ثم يسويها أو يسندها بالمسطرين، وهي أداة من حديد رقيق قوي مفرطح لها يد من خشب، فتأخذ وضعها معتدلة، لتضيف إلى أعلى والأمام، وهكذا حتى يرتفع البنيان شيئًا فشيئًا.
كان ماهرًا في رص القوالب الناشفة، حتى أن واحدًا منا فقط كان لا يكفيه في المناولة، فيهرع إليه اثنان. ورغم خفته وسرعته، كان الجدار يقام معه دون اعوجاج ولا التواء ولا قلقلة. نبدأ معه في أول الصبح منذ حفر الأساس في الأرض، وحتى نرى الجدران في آخر النهار قد استقامت عاليًا، فنعرف أن تراكم الأشياء الصغيرة، يصنع مع الوقت شيئًا كبيرًا، وأن كل البيوت التي تستر أهلنا لم تكن في أولها سوى قوالب طوب متفرقة ومبعثرة، لا يعرف أي منها في أي موضع سيستقر من جدار.
بدا لي البنَّاء في عمله هذا أشبه بكاتب تتتابع السطور بين يديه. السطور هي المداميك، والجدار ربما يكون فصلًا في رواية، أو مبحثًا في كتاب معرفي أو علمي، أما البيت كله فهي الرواية حين تبلغ نهايتها، والكتاب حين يكتمل. كل ما في الأمر في المقارنة بين الكاتب والبناء، أن الحرف وقالب الطوب يتبادلان المواقع والمواضع.
من يومها كلما بدأت في كتابة رواية أو كتاب تأتيني صورة هذه السيدة التي لا أعرف اسمها، ممتزجة بصورة أبي مع فأسه أمام الأرض اليباب، والرجل الذي يغلب الصخر صاعدًا الجبل، والبنَّاء وهو يمد المداميك، فأمد المسافات بين ثلاثة رجال متباعدين وامرأة مجهولة، وقرية ومدينة وبادية، وحقل وحافلة وصخر وجدار، فيهون كل صعب، ويتيسر كل عسير، وتتوالى المؤلفات، بفضل الله تعالى، الذي علمني ملَكة المثابرة من بعض خلقه.
حقا إن نصف المعرفة أو العلم يؤخذ من أفواه الناس وتأمل أحوالهم، وما يفعلونه في دأب وإصرار على العيش، والتقدم إلي الأمام.

 

تعليقات