منبر حر لكل اليمنيين

تفجير دار الرئاسة وتفكك الدولة.. قراءة في مسار العنف

د. طه حسين الهمداني

د. طه حسين الهمداني::

تمرّ ذكرى تفجير جامع دار الرئاسة دون حاجة إلى استعادة تفاصيلها المؤلمة؛ فقد كُتب عن الجريمة الكثير، وقيل فيها ما يكفي من الإدانة والاستنكار. غير أن ما يستحق التوقف عنده اليوم ليس الحدث بحدّ ذاته، بل المسار الخطير الذي دشّنته تلك اللحظة الفاصلة في تاريخ اليمن الحديث، حين انتقل الصراع من فضاء السياسة إلى منطق العنف، ومن التنافس السلمي إلى كسر المحرّمات الوطنية والأخلاقية.

في أول جمعة من رجب عام 2011، لم يُستهدف الرئيس علي عبدالله صالح وقيادات الدولة، ولا موقع سيادي فحسب، بل استُهدفت الدولة اليمنية برمتها للمرة الأولى بهذا الشكل الصادم. فقد شكّل تفجير جامع دار الرئاسة إعلانًا خطيرًا عن قبول العنف وسيلةً للوصول إلى السلطة، وهو خيار لم يتوقف أثره عند لحظته، بل تمدّد لاحقًا ليقود البلاد إلى واحدة من أعقد الأزمات في تاريخها.

لقد أثبتت الوقائع اللاحقة أن العنف لا يُنتج سلطة مستقرة، ولا يبني دولة قابلة للحياة. فكل ما جرى بعد تلك الجريمة المروّعة لم يكن سوى سلسلة متصلة من الاختلالات السياسية، والانقسامات الاجتماعية، وتآكل الثقة بين المجتمع والدولة، وصولًا إلى تفكك المؤسسات، ما فتح الباب واسعًا أمام التدخلات الإقليمية والدولية، وأسهم في إضعاف القرار الوطني المستقل.

ولا تكمن خطورة جريمة دار الرئاسة في فداحتها، ولا في وقوعها في مكان وزمان مقدّسين فحسب، بل في كونها قوّضت منطق التداول السلمي للسلطة، وضربت في الصميم التجربة الديمقراطية الناشئة التي كان اليمنيون، رغم عثراتها، قد اختاروا السير فيها عبر صناديق الاقتراع والاحتكام للإرادة الشعبية. وهي تجربة شهدت – بشهادة منظمات دولية – محطات انتخابية مثّلت خطوة متقدمة في محيط إقليمي مضطرب.

ومنذ ذلك التحول الخطير، دخلت البلاد في دوامة من العنف المتبادل، جرى خلالها تهميش الحوار، وتوسيع دائرة الإقصاء، وسيادة منطق الغلبة على مفهوم الشراكة. وكانت النتيجة أن دفع اليمنيون جميعًا ثمنًا باهظًا من الدماء، والانقسام، والفقر، وتمزّق النسيج الاجتماعي، وضياع الأمل في دولة جامعة لكل أبنائها.
ورغم الإدانات الواسعة التي صدرت آنذاك من القوى السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، والمؤسسات الحقوقية الدولية، إضافة إلى قرار مجلس الأمن الذي صنّف الجريمة عملًا إرهابيًا وأدانها، فإن غياب المحاسبة الجادة وتعثر العدالة في المرحلة الانتقالية ساهما في ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب، وفتحا الباب أمام تكرار الجرائم والانتهاكات التي لا تزال آثارها ماثلة حتى اليوم.

إن استحضار ذكرى تفجير جامع دار الرئاسة لا ينبغي أن يكون مناسبة لإعادة إنتاج الخصومات أو تأجيج الأحقاد، بل فرصة وطنية لمراجعة خيار العنف ونبذ الإرهاب. فالتجربة اليمنية، بكل ما حملته من آلام، تؤكد أن التغيير القائم على استخدام القوة لا يقود إلا إلى مزيد من الانهيار، وأن الحوار – مهما بدا صعبًا أو بطيئًا – يبقى الطريق الأقل كلفة، والأكثر واقعية، لحل الخلافات وبناء دولة المواطنة المتساوية.

إن ذكرى تفجير دار الرئاسة يجب ألا تبقى حبيسة الذاكرة المؤلمة، بل أن تتحول إلى وعيٍ جمعيّ يحصّن اليمنيين من تكرار المأساة. فما جرى في ذلك اليوم لم يكن انتصارًا لأي طرف، بل كان فاتحة لتدشين أسوأ فصول العنف، وبداية خسارة وطن بأكمله، حين فُتح الباب واسعًا أمام العنف وأُغلق أمام السياسة.
لقد أثبتت السنوات اللاحقة أن الأوطان لا تُدار بالصدمات، ولا تُبنى على أنقاض المساجد والمؤسسات، وأن الطريق إلى الدولة لا يمر عبر التفجير أو الإقصاء، بل عبر الحوار، والقبول بالآخر، والاحتكام إلى الإرادة الشعبية في إطار دولة القانون والمواطنة المتساوية.

إن مسؤولية استعادة اليمن لا تقع على طرف واحد، بل هي مسؤولية وطنية وأخلاقية مشتركة، تبدأ بالاعتراف بفشل العنف، وتنتهي بإعادة الاعتبار للحوار بوصفه الخيار الوحيد القادر على إنقاذ ما تبقى من الدولة. فاليمنيون، إذا التقوا دون أجندات مسبقة، قادرون على إنتاج مشروع وطني جامع يعيد لليمن دولته وسيادته، وللشعب أمله في حياة كريمة.

تعليقات